خالد الكركي: لسنا جزءاً من صفقة لأحد، ولسنا أغراراً في الدفاع عن مستقبل الوطن

هلا أخبار- سامر العبادي- يمزج د.خالد الكركي بين الأدب والسياسة، ويزاوج المواقف بشكل غريب في طرحه ومنطقه، فتحسبه رجلاً ثائراً بينما هو يُذكر مستمعيه بأن نصف عقدٍ قد مضى من عمره كرجل سلطة يخدم في العمل العام.

يصعُب وضع أيّ لقب بعينه قبل اسم خالد، ويتغلب المرء في تحديد هوية الرجل فهو الأكاديمي والسياسي والمثقف وقارىء التاريخ وفوقها حارس اللغة، وإن كان هواه أردنيّا بامتياز وذلك المَعلم الوحيد الدال على بوابته.

ارتجل الكركي وهو يتحدث صباح الأربعاء، أمام نخبة من الأردنيين، في حفل أقامه مجمع اللغة العربية، منحيّاً الأوراق التي كانت بين يديه جانباً ليحلّق بما يدور في خلده.

يرتّب الكركي النصوص ويقتبس الأقوال والحكم، ويعرّج على الأحداث التاريخية بمسحات أندلسية، ويرفض أن يقبل اعتذار آخر حكام الأندلس وتذرعاته حتى لو قام من قبره وفعل ذلك اليوم.

في اليوم العالمي للغة العربية كان الجمهور يستمع إلى الكركي بنهم، حيث لم يخلُ حديثه من إرسال الرسائل وإبداء المواقف، مُعرجاً على الأحداث السياسية المحلية إلى الإقليمية.

في مستهل حديثه، ثمن الكركي رعاية ودعم جلالة الملك للحركة الأكاديمية والعملية والتعليمية والثقافية والتي “تجذرت في الوطن العزيز وامتدت ونحن على أعتاب مئوية الدولة الأردنية الأولى، فقد أنجزت وقدمت خارج سائر أطر الشك التي تمر في البلد وخارجه الذين يحرفون الكلم عن مواضعه”.

ويقول الكركي: “جئنا لنحتفل خارج الضجيج الموجود تماماً حول المنطقة ومستقبلها، فنحن نعرف مستقبل دولتنا ووطنا وكيف ندافع عنه، ولسنا أغراراً في ذلك ولم نبدأ يوم أمس”.

ويضيف الكركي: “على الذين يثيرون الخوف ويتخيلون أننا فقط جزء من صفقة ستمر في هذه المنطقة، فنحن لسنا جزءاً من صفقة لأحد، وقد ولّى زمن سايكس بيكو، وأعتقد أن الأردنيين سيكسرون في المراحل المقبلة كثيراً مما يحاصر الناس”.

وعاب الكركي على من يتحوّل ضد نفسه ويدمر نفسه بالإشاعات وتضخيم الأحداث والحديث بشكل متواصل عن الفساد، وقال “إذا كان أحد يريد أن يفوز بالانتخابات فبغير هذه الطريقة، تشوهوا الوطن لكي تفوزوا!”.

 ويتابع: “الملك يتقدم ويسعى وهنالك من يسير إلى الخلف فاتركوهم يسيرون إلى الخلف، فهذا البلد غير قابل للتجزئة لا على السياسيين ولا على الحزبيين ولا على منظمات المجتمع المدني ولا على الجمعيات ولا على الدوائر ولا على الوزراء ولا على الرؤساء، فهذا وطن كامل ودولة كاملة، لا تحتاج بعد هذا العمر إلى كثير من التفكير (لماذا لا نهتم باللغة العربية؟)، لأننا نريد من هنا أيضاً، أن نصنع معجزة الوطن، صنعنا معجزة التعليم ونريد أن نصنع واحداً أخر في المجامع وتعريب اللغة العربية في كل مكان”.

وزاد الكركي: “الشكر أيضاً لصاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير الحسين بن عبد الله الثاني على تفضله بالرعاية الكريمة لهذا اليوم الطيب من أيام اللغة العربية الشريفة والخالدة، وعلى مبادرته الأساسية (ض) التي نحن شركاء فيها منذ بدايتها في هذا السياق الكبير”.

 ويتابع “أيها الحفل الكريم، لكم الشكر على حضوركم هذا الصباح، وهذا يوم يطيب فيه التذكر في رحاب العربية وظلاله الوارفة… العربية في يوم واحد من أيامها، وعلى مرأى من خصومها وهمومها؛ أما الخصوم فهم الذين يختبئون في العالم العربي خلف الاستبداد والاستعمار والفساد، لأنها تعطل لسان من يقول الصدق، ومن يحتج على الخوف ومصادرة الحريات بل تعليم الحرية للمضطهدين”.

ويتابع  قائلاً: “هم الذين يقفون في العالم العربي ينظرون إلى الأمية التي انتشرت كأنها لا تعنيهم، وأنا أحمد الله في الأردن أنها لا تتجاوز 5 % لكنها في بلدان أخرى تقفز إلى مراحل كبيرة وتزيد ولا تنقص”.

وحمّل الكركي مسؤولية الأميّة وما أسماها “الطاعون الأول الكبير” للسلطات السياسية، قائلاً: “دعاة الأميّة والعامية، ولا أتحدث عن الأميين فهم براء مما وقع لهم، نحن لم نعلمهم في العالم العربي فهي مسؤولية السلطات السياسية التي لم تعمل على التعليم بقدر ما اعتمدت على التجهيل”.

ويرى الكركي: أن “العاميات أصبحت كأنها إرث الآباء فقط، ولا ينظرون إلى عيوبهم، ليس في اللحن فقط، بل بالانحطاط إلى الهابط من الكلام، والبارد الغث من المعاني، والهروب إلى لغات أجنبية يظنون أن بعض كلماتها تحميهم من خجل كان لا بدّ أن يعتريهم… وأعجب كيف لأحد أن يعلم الناس أن يعرفوا أنفسهم، أو يكونوا أنفسهم قبل أن يعلموهم لغتهم !!”

ويروي الكركي ما كتبه الكاتب الداغستاني الكبير رسول حمزاتوف في كتابه الرائع “داغستان بلدي”، حيث “إنه طاف بلاده كلها يبحث في الثقافة الشعبية عن أشد الدعوات على الأبناء وغيرهم بين السيدات، حتى وصله صوت عجوز تدعو على جارتها: “حرم الله أبناءك من يعلمهم لغتهم”.

ويضيف الكركي:  “قلت الاستبداد، والاستعمار، والفساد، والأمية، والعامية، … وأضيف: الرغبات التي تأتي مع الرأسمالية الطفيلية لأنها تأتي باللغة معها، وقوى الاستهلاك، والبورجوازية التابعة، ووسائل التواصل (ولا أعمم) التي هبطت باللغة، وسيطر عليها أنصاف المتعلمين، وغاب أهل الإعلام الوطني عنها، بل هبط الإعلام بدءا من الإعلان، وصولاً إلى برامج الإذاعات ومحطات التلفزة، وصولاً إلى أهل الندوات والمحاضرات… وقبل هذا أهل التعليم العام والجامعي”.

وزاد الكركي:  “لقد أنجزنا في الوطن الأردني في التعليم، وأخشى -كما قيل- أن نكسب التعليم وأن نخسر الثقافة، وإذا خسرنا الثقافة نحن سنخسر القيم في هذه الثقافة، ويصبح المتعلم وعاءً فارغاً متبجحاً بما يعرف لكنه لا يعرف السوق ويحفظ القيم ولا يجمعها، هذا الذي نخشى منه، وقد تعلمنا من قصة (مدينتي) شارلز ديكنز كان عصر النور وكان عصر الظلمة كان عصر الإيمان وعصر الشك .. إلى آخر تلك المقدمة الجميلة، نحن نعيش في زمن يشبه ذاك الزمن على مستوى الأمم”.

وتساءل الكركي: “كيف لنا إن عدنا إلى التذكر أن لا نتحدث عن الوضع العام الذي تعيشه اللغة العربية، تعيش في زمنٍ من الفواجع لا يتوقف، فهل نخرج من اللغة إلى التعليم الذي توضع فيه اللغة، فقد يتقن غير العربي اللغة العربية لكنه عدو ويقدم إذاعات بلغاته هو أو باللغة العربية وهذا ليس المطلوب، بل المطلوب هو المحتوى الذي يكون في هذه اللغة أيضاً، فهل يكون أبعد عليه من حزن غرناطة أو عظمة دمشق؟”.

وتابع الكركي: “أمام هذه الأمة نبدو الآن وكأننا (ننتظر الذي لا يأتي ولا يأتي)، ما الذي ننتظره من الخارج من دون أن نسعى، وهذا لا سمح الله يشبه الحزن الغرناطي، فحينما وقع الحاكم أمر تسليم غرناطة كان قد أهمل ما كان يجب أن يقوم به، لكنه عندما جلس منفياً بالمغرب كّلف أحد الكتاب أبا عبد الله محمد العقيلي أن يعد رسالة تصف حاله واعتذاره، وبعث بها إلى سلطان فاس الشيخ الوطاسي؛ وأشد ما فيها من قبح أن الكاتب وسيده يقيمان اعتذارهما على سقوط بغداد للمغول، ويسوغان سقوط غرناطة في معادل ذلك:”… والا فتلك بغداد دار السلام، ومتبوأ الإسلام… قد نوزلت بالجيوش ونزلت، وزولت بالزحوف، وزلزلت، وتحيفها الحيف، ودخلها كفار التتار بالسيف…!!! وقد غاب الصوت المذبوح في غرناطة، كما غاب قبله الكبد المتصدع في بغداد”. 

وأضاف الكركي: “والمجمع واللجنة الوطنية أرواح لا تهدأ، وإنجازهما معروف، ونحن مقدمون على: استكمال لسان العرب الاقتصادي والأجزاء الثانية والثالثة (طباعة) – استكمال دراسة العربية في الجامعات وإعادة حماية الشوارع في المدن من التلوث اللغوي ويحتاج إلى تعديل قوانين وإعلان أول حاضنة للعربية لزيادة المحتوى على الإنترنت”.

وكشف الكركي أنه سيُعلن قريباً عن افتتاح مركز لتعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها، وقال”للسيطرة على ذلك لا بد من تشريع ونحن في حوار مع مجلس الوزراء على أن يكون المركز في المجمع أو في أي جامعة، حيث زادت المراكز على 90 معظمها تعلم بالعامية وحوّلها الشباب في بعض الجامعات بين العامية والفصيحة وهذا لا يجوز، فالناس يأتون لتعلم اللغة العربية لكنها أصبحت تجارة رابحة”.

وزاد الكركي: “تحت رقابة دقيقة سيتم – إنجاز مشروع “امتحان القياس”، و”تطبيق امتحان الكفاية”، و”بنك الأسئلة” – إطلاق أول حاضنة عربية لرفع المحتوى العربي على الشبكة. – ونرى في الأفق مبادرات من المجمع واللجنة الوطنية للنهوض باللغة العربية”.

ويضيف الكركي: “ومع هذا كله أسألكم وأنتم أهل المعرفة أن تقولوا للناس عندما يرون العربية بعيدة وغير قابلة للتطور والتقدم: كيف اقتربت لأهلنا قبل الإسلام، هل انبثقت من نبع أو صخر حتى صاغوا أعاجيبها لغة، ونحو، وموسیقی قبل أن يكتب في هذه حرف في كتاب يعلمها؟، فهذا ميثاق وتهيئة أن تحمل القرآن الكريم”.

وزاد الكركي: “كيف أخذنا الدنيا من لحظة الغار العظيم: “اقرأ باسم ربك الذي خلق” ثم “سنقرئك فلا تنسى”، وبها أخذنا الدنيا عدلاً لا غلابة، وكيف تمكنا من إنزال المعلقات العظيمة من على أستار الكعبة؟ أنزلها القرآن بإعجازه، فقد كانت عند قومنا أصناماً أخرى لا يحق تجاوزها حتى نزل القرآن العظيم بالعربية، فصارت لغة أهل الأرض وأهل الجنة.. وما من جنس أو تمزق أو بلد في العالم إلا ويرتفع فيه حضورها مع صوت الأذان: أن “الله أكبر الله أكبر”.

وزاد الكركي: “قولوا لهم…هل له من وسيط بين الأرض والسماء إلا هي:  منذ أن سرت ركائب بالهادي ورحمته ..في الشرق والغرب مسرى النور في الظلم.. هل من سلام للشهداء من غير أن نقرأ في غيابهم: “السيف أصدق”، و”إذا الشعب يوما أراد الحياة”، وصوت فيروز في “زهرة المدائن”.  هل من عشق صوفي بغيرها، وهل من وجبر في التجليات الإبداعية إلا بها .!!”

واستحضر الكركي في حديثه ابن الفارض، حين أنشد في صوفيته العظيمة:

“فرشث لها خدي وطاء على الثرى

فقالت لك البشرى بلثم لثامي

هل من عشق أعلى من عذرية القوم ويا عروة أعد:

هوى ناقتي خلفي وقدامي الهوى

وإني وإياها لمختلفان هواي شآمي وترمي زمامها

البرق إذا لاح النجوم يمان

واقرؤوا عليهم رائعة حسان في الغساسنة:

يمشون في الخلل المضاعف نسجها

مشي الجمال إلى الجمال البرل

وتزور أبواب الملوك ركابنا

وإذا تحكم في البرية نعدل

خذوها من صاحبكم المتنبي:

أبي خلق الدنيا حبيبة تديمه

فما طلبي منها حبيبة ترده

وإذا شئتم اقرؤوا له في جدته:

هبيني أخذت الثأر فيك من العدي

فكيف يأخذ الثأر فيك من الحمر

وما انسدت الدنيا علي لضيقها

ولكن طرفا لا أراك به أعمى

وقد عدنا كما رأنا في شعب بوان :

ولكن الفتى العربي فيها

غريب الوجه والي

وواصل الاستحضار بقوله:  “واللسان هل أتابع درسا في الشعر أم أصده بامرئ القيس:

أغرك مني أن حبك قاتلي

واقرأ له:

ولما بدت حوران والآل دونها …”

وأضاف الكركي: “هي لغتكم… آلاف الكتب في اللغة والتاريخ، وعلوم التراث والحديث، والفلسفة، والسياسة وأي علم تريدونه عبر الأزمنة كلها… إنه عزيز على الحصر.. فماذا نحن فاعلون لأمرين: ترجمة ما كتب الأخرون عنا؟ ونشر الذي ما يزال مخطوطة من تراثنا؟ تتزاحم الأفكار حتى صرت كما “راش” حين تكاثرت عليه الظباء : “فما يدري خراش ما يصيد”.

ويؤكد الكركي على أهمية العربية بقوله “فهل لكم غيرها من وسيلة للتعبير، وأخص الذين انتقلوا من الحديث بالعامية إلى الكتابة بها، فغضبت عليهم أمهم العربية، فهم خارج سياقنا أشباح ومجهولون”.

وتابع الكركي يقول: “فيا أيها الكاتب والمثقف،لا تسوغ للناس هوان لغتهم عليهم، فقد ذبحنا المغول والصليبيون، وصولا إلى سايكس  بيكو وعصاباتهم الاستعمارية.وحين أفقنا من الكابوس كنا قد خسرنا قدرتنا على إعمال العقل، واستعادة المبادرة، والبحث عن مكان لنا تحت الشمس، ولكننا لم نوفق دائما وظل بيننا من يسوغ لأبي”

وتابع الكركي: “ظل في الهاجس أمران: نص عن المقاومة صورة قرطاجنة أقدمه اهداء إلى المقاومة التي تقرأ التاريخ بأي لغة ضد أي عدو للأرض والحرية والإنسان.  والثاني: أن أمد الشكر إلى الذين يسعون من أجل عودة العربية إلى أهلها عزيزة كريمة: المعلم، والعالم، والطالب، والأكاديمي، والإعلامي، والعامل والفلاح والمقاتل؛ فقد حضر الزمان أمام عيوننا بصوت جديد. صهيل الخيول على السفح.. إما الصعود ، وإما الصعود”.

ويضيف الكركي: “الشكر لأهلنا على امتداد أرض العربي وأرض الإسلام، وفي أي مكان يرتفع فيه من المآذن صوت عتيق يصلكم بسیدنا بلال بن رباح…. ولا أظن المعركة مستحيلة حتى تنتصر الأمة والعربية، وترفع رايات رسالتها في الدنيا التي ما نزال أهل الحق في الدفاع عن الضعفاء من أهلها.”

ويقول الكركي إن “الشكر لمراكز البحث، ومراكز تعليم العربية، أما سائر الذين يسمعون نداءنا وصوت خيبتنا أحيانا ويصمون آذانهم وهم في معاداتهم للعربية سادرون …. فنقول: لنا كتابنا ولغتنا ولكم ما يظل من غبار أزقة التاريخ: خيبة وضياع”.

ويضيف: (وظل في الخاطر بيتان من الشعر لقيس: وأجهشت للتوباد حين رأيته .. وكبر للرحمن حين رآني .. وأذریت دمع العين لما عرفته ..  ونادي فأعلى صوته ودعاني ..).

ويواصل الكركي القول مخاطباً الأردنيين: (ولا توزعوا لحم فقراء الوطن على ألف جمعية NGO مرتبطة بالخارج التاجر بفقرنا وقيمنا ولغتنا، وخجل فقرائنا، وجوع أطفالنا ونحن الذين – “تحسبهم أغنياء من التعفف”  و”ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة”  “ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً).

وختم الكركي حديثه بالقول : “سلام للشهداء سلام لأهل العربية وهم الصادقون “الصادقون يتامى في مدينتنا” وسلام لكم جميعا، وكل عام وأنتم بخير”.






زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق