لا بد من الزلزال!

كتب: د. عبدالله الطوالبة

قبل الإجابة على سؤال سيخطر بالبال فوراً عن الزلزال المقصود، دعونا من التلاوم والاتهامات والتخوين وما شابه. هذا خطاب متهافت، يضر ولا ينفع، ويشير إلى بؤس التفكير. الإعلام الحقيقي، ليس لعاناً ولا رداحاً. الإعلام الحقيقي، يقدم حقائق، ثم يحلل ويشخص ويستنتج ويوجه.

مصدر الشرور كلها، هو التخلف العربي. التخلف يعني الضعف، وإذا كان هناك من خيانات او تخاذل، فمصدرها التخلف، والتاريخ سيتكفل بالحسم في أمور كهذه، عاجلاً أم آجلاً.

بالعودة ما نحن بصدده، الزلزال المطلوب لا بد وأن يحدث في العقل العربي، على صعيد أنماط التفكير والمصارحة والمراجعة النقدية لكل شيء بما في ذلك مسار القضية الفلسطينية. من دون هذا الزلزال، لن يحدث اي تحول فارق على صعيد قضية العرب المركزية، التي ستظل تحمل هذه الصفة، مهما تحفظ بعضنا على ذلك وحاول النأي بنفسه عن تداعياتها.

قضية فلسطين بالنسبة للعرب، ليست مسألة عاطفية، بل تحدٍّ وجودي وموضوع مصير. لن تقوم للعرب قائمة من دون فلسطين. فمن يسيطر على فلسطين، يبسط سيطرته على المنطقة. ولقد ترسخت هذه القاعدة، منذ قرون. ولعل المتابع لمسار الامبراطوريات، لجهة بروزها وصعودها وزوالها، لا بد سيجد فلسطين حاضرة في هذه المراحل الثلاث. فكل إمبراطورية، توجت ظهورها ببسط نفوذها في منطقتنا، بدءاً بفلسطين تحديداً، كونها مفتاح السيطرة على المنطقة. فهي الرابط الجغرافي والفاصل بين جناحي الوطن العربي، الآسيوي والافريقي. ولا نغفل بالطبع رمزيتها الدينية، التي لا يحظى بها مكان سواها.

لا يمكن لأي عربي التهرب من تداعيات القضية الفلسطينية بأي اتجاه كان، سلباً أم ايجاباً، مهما حاول. ستظل فلسطين، باروميتر الأوضاع العربية، شئنا أم أبينا.

طيب، لو استنطقنا هذا الباروميتر، بناء على ما آلت اليه القضية الفلسطينية، وما يجري في بيت المقدس هذه الأيام، فماذا سنسمع منه؟!

أظنه سيبدأ الكلام بتشخيص الحالة الفلسطينية أولاً، بالتساؤل: ما بكم أهلي الأعزاء وخاصتي من الناس تبصرون القذى في عيون الآخرين وعيونكم تطرف على الأجذاع؟!

الأشقاء الفلسطينيون تحسبهم كلاً واحداً كما يجب أن يكونوا، وعلى أرض الواقع قلوبهم شتى. فهناك امبراطورية الضفة، ومملكة غزة العظمى. حركة فتح، العمود الفقري التاريخي للحركة الوطنية الفلسطينية، أكثر من تيار و”عشيرة” سياسية لكل منها “شيخها” ووجهاؤها. حتى اليسار الفلسطيني، ممزق ومتشاحن.

لم يتعلم الفلسطينيون من تجربة محتلي أرضهم. فعلى الرغم من الأزمة التي تعتمل داخل الكيان، إلا أن تجربته منذ عام 1948، في تذليل الخلافات لخدمة الأهداف المصيرية، يمكن التعلم منها.

الفلسطينيون يُفترض ألا يكونوا بوارد الاستقطاب بين علماني وديني، أو يساري ويميني. الإنقسام بين الفلسطينيين لأي سبب كان، بمنزلة جريمة يقترفونها بحق قضيتهم العادلة، لن يتسامح التاريخ معهم بشأنها.

مقصود القول، الأشقاء الفلسطينيون في وضع لا يسر. السلطة الفلسطينية، وفق اتفاق أوسلو، مرهون استمرار وجودها بالتنسيق مع الاحتلال، بكل ما يتضمنه ذلك من اعتقال مقاومين فلسطينيين. وبالتعاون مع السلطة، حقق دايتون اختراقات في الوعي الفلسطيني، وهذا احد أخطر نتائج “أوسلو” وأكثرها لؤماً. باختصار، الوضع الفلسطيني بحاجة إلى مراجعة شاملة من الأشقاء الفلسطينيين أنفسهم، تكون الكلمة الفصل فيها للأحرار وللمثقفين الفلسطينيين، وما أكثرهم.

أما على الصعيد العربي، فالمتتبع لتاريخنا الحديث، لا بد سيلحظ ان العرب منذ اعلان قيام الكيان في فلسطين عام 1948، في مسار تقهقري انحداري، في الميادين كافة، وفق باروميتر القضية الفلسطينية.

في خمسينيات القرن الماضي وستينياته، وصل القوميون العرب إلى سدة الحكم في أهم الدول العربية، مثل مصر وسوريا والعراق والجزائر وغيرها. لكن العرب خسروا فلسطين كلها عام 1967 بهزيمة مذلة ومهينة. شن العرب حرب 1973 على العدو، وحقق الجيشان المصري والسوري إنجازات في ميادين القتال اول أيام الحرب، أعادت للعرب بعض توازنهم. لكن ثغرة الدفرسوار، على الجبهة المصرية كانت بداية تحول في الميدان لصالح العدو. انتهت الحرب بما انتهت اليه، وأنقسم العرب على انفسهم بسبب اتفاقية كامب ديفيد 1978 بين مصر وإسرائيل. مذاك، بدأت موازين القوى تميل لصالح الكيان. وزاد الاختلال لصالح الكيان أكثر، بعد تدمير العراق اثر حماقة غزو الكويت في الثاني من آب 1990، ثم احتلاله عام 2003 وأخراجه من معادلة الصراع. وكان مؤتمر مدريد1991 لما يُعرف بعملية السلام، كما تأكد من خلال نتائجه على الأرض، تحولاً جديداً في الصراع، هدفه الرئيس فرض الاستسلام على العرب باسم السلام والتنازل عن فلسطين كاملة، بموافقة عربية رسمية وغطاء فلسطيني.

الوضع العربي اليوم في أسوأ حالاته، وخاصة بعد اندلاع حراكات ما يُسمى بالربيع العربي، التي لم تلبث أن تحولت إلى حروب أهلية مدمرة في عدد من بلداننا.

اما على المستوى الدولي، فهناك قرار أميركي متوافق بشأنه مع حلفاء العم سام هنا وهناك، بعدم قيام دولة فلسطينية مستقلة في فلسطين. من الأدلة الفاقعة على ذلك، ما قال وزير خارجية أميركا الأسبق، جيمس بيكر، خلال مؤتمر مدريد بلسان انجليزي مبين:”لا دولة فلسطينية مستقلة، سيحصل الفلسطينيون على أقل من دولة وأكثر من حكم ذاتي”.

بناءً على ما تقدم، ومن دون خداع للذات وضحك على الذقون، ليس بمقدور العرب في هذه المرحلة تقديم شيء لفلسطين وقضيتها يتجاوز العواطف والسماح بمسيرات تضامنية هنا وهناك، هي في الحقيقة فقاعات صوتية على صعيد التأثير، بالإضافة إلى ما يسمح الكيان بدخوله من مساعدات عينية من بعض البلدان العربية.

لن تعود فلسطين عربية إلا إذا حصل زلزال في العقل العربي، على مستوى أنماط التفكير، بحيث يبدأ هذا الزلزال بالفلسطينيين أنفسهم. تحرير فلسطين لا يتحقق ولن يتحقق بالصلاة في المسجد الأقصى. قضية فلسطين اكبر من ذلك بكثير. الامم تتقدم بعقولها وليس بأديانها. العدو احتل فلسطين، وهزمنا، لأنه يمتلك عناصر القوة بمعايير الحاضر، التي لا نمتلك أياً منها. صحيح انه يوظف الأساطير التوراتية في خدمة أهدافه السياسية، لكنه على أرض الواقع يواجهنا بمنتجات العلم والعقل.

للتذكير، عناصر القوة اليوم تتمثل بالديمقراطية والعلم والعقل. لا يمكن للإستبداد والفساد ان يحررا وطناً سليباً، ويستحيل انتصار التخلف على التقدم، حتى لو كان الأول على حق.

والآن، أظنك عزيزي القارئ فهمت معنى الزلزال، الذي به بدأت وبه أُنهي.

السلام عليكم.






زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق