قراءة في اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية: تحديات وفرص

كتب: بارق محادين

بإرادة ملكية سامية، وجّه جلالة الملك عبد الله الثاني رسالة عَهِد من خلالها إلى دولة رئيس الوزراء الأسبق سمير الرفاعي بترؤس لجنة ملكية لتحديث المنظومة السياسية. وقد تحددت مهام اللجنة بوضع مشروعي قانونين جديدين للانتخاب والأحزاب السياسية والنظر بالتعديلات الدستورية المتصلة حكما بالقانونين وآليات العمل النيابي، بعضوية 92 شخصية أكاديمية وسياسية وقانونية ومجتمعية وشبابية.

وما لا شك فيه، فإن من الأهمية بمكان أن يُقرأ تشكيل اللجنة الملكية في سياق توالي أحداث داخلية وخارجية ألقت بظلال ثقيلة على المشهد المحلي في الأردن. بدءا من حادثة مستشفى السلط وتداعيات الفتنة ومشهد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الأخير، وليس انتهاءً بحادثة النائب المفصول أسامة العجارمة التي كشفت عن اختلالات حادة في أنماط العمل السياسي والنيابي. بيد أن القاسم المشترك الذي اتضح للجميع في خضم حالة عدم الاستقرار والضبابية التي سادت المشهد القريب كان الدعوة إلى الإصلاح السياسي الجذري وتوسيع قاعدتي المشاركة والمساءلة بغية إرساء ركائز مؤسسية تستطيع أن تعزز من منعة الأردن في مواجهة الصدمات التي توالت وستتوالى.

إلا أن تباين ردود الفعل الشعبي التي سرعان ما صاحبت الإعلان عن تشكيل اللجنة الملكية يستوجب النهوض بعدة تساؤلات حول احتمالية نجاح عملها نظرًا للتحديات الماثلة أمامها.

أولًا؛ على صعيد البُنية، يمكن القول إن التحفظات الشعبية التي صاحبت اختيار شخص رئاسة اللجنة من شأنها أن تُقلل من حظوظ شرعيتها – اللجنة – لدى الشارع. ذلك أن الذاكرة القريبة للشارع الأردني لا تزال واعية بالظروف السياقية التي دفعت بإقالة حكومة سمير الرفاعي في العام 2011، بعد أسابيع من المظاهرات الاحتجاجية ضد سياسات حكومته الاقتصادية ومطالبات الإصلاح السياسي آنذاك. وكما جرت العادة، فقد زخرت مواقع التواصل الاجتماعي بإعادة نشر عناوين إخبارية من تلك الفترة المفصلية في مسيرة الأردن والمنطقة نحو التحول السياسي الديمقراطي، في إشارة إلى المخزون المتدني من منسوب الثقة الشعبية في حكومة سمير الرفاعي.

في المقابل، يُحسب للتركيبة البنيوية للجنة وجود أسماء وشخوص تحظى بثقة شعبية جيدة من شأنها أن تعيد التوازن المطلوب في شرعية قبولها لدى الشارع. إذ تشير قراءة دقيقة قدمَتها هلا أخبار إلى تنوع عضوية اللجنة وتوزع مكوناتها على الأطياف الحزبية والحقوقية والشبابية والبرلمانية والسياسية والقانونية والأكاديمية والإعلامية والنقابية المختلفة. وهو ما لم تشهده تركيبة اللجان المشابهة السابقة، ويعد بالتالي أمرًا مرحبًا به ما التزمت اللجنة العمل “بروح التكامل مع رئيسها” كما ورد على لسان رئيس الوزراء الأسبق طاهر المصري في تعليقه على تشكيل اللجنة.

بالرغم من ذلك، فإن فسيفسائية التركيبة لا تعني بالضرورة تشكل حالة انسجام تجمع بين أعضاء اللجنة، حيث من شأن ذات التنوع أن يُصعّب من ضبط إيقاع عملها ويرفع صوت النشاز بين أوتارها، وذلك في حال عدم تحلي أعضاء اللجنة على اختلاف مدارسهم السياسية وخلفياتهم المتنوعة بالمسؤولية التي وضعت على عاتقهم والتزامهم بالأطر التي حملتها الرسالة الملكية بين طياتها، وألّا يتم التوسع خارجها.

ثانيًا؛ على صعيد الشكل، فعلينا إدراك أن اللجنة جاءت بشكل أُطري وليس تنفيذيًا نظرًا لكونها لجنة ملكية، بمعنى أن الإصلاح السياسي المنشود لن يعتمد بشكل كامل على مخرجاتها وتوصياتها فحسب، بل يتعداها ليشمل الأدوار اللاحقة للسلطتين التنفيذية والتشريعية في ترجمتها إلى سياسات وتشريعات نافذة وفاعلة، وهما (الحكومة ومجلس النواب) المعنيان بقيادة دفة الإصلاح والتنمية السياسية دستوريًا. وعليه، لن يكون بمقدور اللجنة أن تعمل بمعزل عن التحديات التي تواجه السلطتين التنفيذية والتشريعية وفقدان ثقة الشارع بهما.

إضافة إلى ذلك، فإن من نافل القول الإشارة إلى ضرورة ألّا يتم المبالغة برفع سقف التوقعات المنشود من هذه اللجنة؛ ذلك أنّها ليست الفاعل الأوحد في معادلة نجاح باقة الإصلاحات السياسية المطلوبة. علاوةً على أهمية إدراك أن الإصلاح السياسي هو مسيرة وليست نقطة وصول، فاللجنة إذن ليست الأولى وهي حتمًا لن تكون الأخيرة. كما أن فرص نجاحها ستعتمد بشكل كبير على مدى التزامها بحكمة ألّا تحاول “إعادة اختراع العجلة” الناظمة لماهية الإصلاح السياسي وأولوياته، والاستعاضة عن ذلك بالقيام بمراجعة مكتبية تتتبّع خيوط تطور مسار الإصلاح السياسي وعمل ومخرجات اللجان السابقة، فضلًا عن الاسترشاد بالأوراق النقاشية السبع التي طرحها جلالة الملك وأشار لها صراحةً في رسالة التشكيل السامية.

ثالثًا؛ لا مبالغة في قول إن الحمل الملقى على أكتاف اللجنة يتجاوز القيام بالمهام المناطة بها عمليًا. ذلك أن تشكيلها قد اقترن بضمانة ملكية واضحة تحميها من أي تدخلات أو محاولات للتغيير أو التأثير عليها، ما يضعها أمام مسؤولية حرجة وبالغة الأهمية في عدم تفويت هذه الفرصة المتمثلة في الضمانة الملكية. وغير ذلك يعني وضع عصى إضافية في عجلة الإصلاح وزفرة ستُوسّع الفجوة بين الشارع والمؤسسات. وكلاهما ستشكلان عثرة أولى في مسار مئوية الدولة الثانية – لا قدر الله.

لذلك، فإن جملة التحديات والفرص المصاحبة لتشكيل وعمل هذه اللجنة تتقاطع مع تعقيدات المشهد المحلي بشكل مباشر. ومع مراجعة الأحداث المحلية الأخيرة والتطورات الإقليمية في المنطقة، يبدو من الصعب تصور لحظة أكثر عمقًا وتأثيرًا من تلك التي نعول بها جميعًا على إحداث ثغرة في الخطوط الفاصلة بين الثقة الشعبية والمؤسسات الرسمية، وبين وعود الإصلاح وتنفيذه، وبين التشنج المتنامي في العلاقة بين الدولة والمواطنين. دون إغفال أن تحقيق ما ذُكر يتطلّب النظر إلى اللجنة الملكية كلبنة أساسية نأمل منها أن تُشكّل نموذجًا من الحوار الجامع المقترن بسياسات ملموسة توطّد لإصلاحات دستورية واقتصادية وتدعّم حالة الوعي السياسي بشكل أوسع في قريب الأيام. مُجتمعةً، من شأن هذه الإصلاحات أن تبث روحا نهضوية فينا، جُل ما نحتاجها للعبور نحو المئوية الثانية بخطى أكثر ثباتًا وقوة.






زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق