مذكرات مضر بدران والأسئلة الصعبة!

كتب: د. عبدالله الطوالبة

لم تتوفر لدي الرغبة بقراءة مذكرات رؤساء الحكومات الأردنية لأسباب عدة أهمها، أن واقع حالنا اليوم تتوارى أمامه خجلاً أية بطولات مُدَّعاة. لكن ما وقعت عليه عيناي، والتقطته أذناي بخصوص مذكرات رئيس الوزراء الأسبق مضر بدران، جعلتني أستثنيها من قناعتي تلك.

وبعد أن انتهيت من قراءتها بحرفها وحذافيرها، تأكد لي صحة موقفي هذا. خلال قراءة المذكرات، تتوالد أسئلة أظن أن الاجابة عليها ستحدد مصير بلدنا ومستقبلنا.

تتأسس هذه الأسئلة، على ما رأيناه أهم مضامين المذكرات الواقعة في 423 صفحة، ان لم يكن أخطرها. نقول أخطرها، لأنها تأتي على لسان أحد أركان النظام السياسي، حيث يقدم بعض ما يقول أدلة تقود الى استنتاجات لربما تختلف مع قناعاته، أراد ذلك أم لم يرده.

بمنظور الحاضر، وما يمر به الأردن اليوم من تحديات مصيرية، يروق لي أن أبدأ قراءتي للمذكرات مما ورد في الصفحة 213. هنا، يقدم صاحب المذكرات نفسه رئيس وزراء لا يتهاون في محاربة الفساد، الذي يرى فيه خطرا يتهدد الدولة ونظامها السياسي.

انطلاقا من قناعاته بخطر الفساد وتبعاته المدمرة، نجده يتحدث مع الملك حسين بهذا الخصوص بجرأة نادرة، اذ يقول: “…وتابعت القول للراحل الحسين، أما اذا سلمت البلد لفاسدين، فاني سأترك الأردن، وسألجأ لبلد ثانٍ، لأني لا أحب أن أرى بلدي ينهار، لأن الفساد سيتسبب في اسقاط النظام”.

حدث ذلك، عندما كان الرجل على رأس حكومته الأولى التي تشكلت عام 1976، أي قبل خمسة وأربعين عاما. اذن، مشكلة الأردن مزمنة مع الفساد. لكن، وبما أن رئيس الوزراء في تلك الآونة متنبه لهذه المشكلة وكافحها بلا هوادة كما يؤكد في مذكراته، فحري بمن جاؤوا بعده أن يسيروا على النهج ذاته. وعليه، يُفترض أن الفساد في الأردن تحت السيطرة.

لكن ما نراه اليوم، وما يؤكده واقع حالنا، هو العكس تماما. هنا، يفرض نفسه السؤال: لماذا تفاقم الفساد وتغلغل في مفاصل الدولة، وكيف، ومن المسؤول؟!!!

وفي الصفحة 214، يتطرق رئيس وزراء الأردن الأسبق الى ظاهرة التغيير المتكرر لرؤساء الحكومات والتعديلات الوزارية، التي تعتبر ماركة مسجلة باسم الأردن بين دول العالم كلها. بحسبه، “التغيير المتكرر لرؤساء الحكومات لن يصنع استراتيجيات الخدمة العامة، على أسس المحاسبة والمتابعة والمكافأة”.

قبل ذلك، يخبرنا الرجل في الصفحات (172- 175) بما هو أنكى بهذا الخصوص. فالحكومات بعد تشكيلها، تبدو منسجمة في أداء وزرائها. لكن بعد أشهر قليلة، تبدأ الانقسامات بينهم الى فريقين أو أكثر، ليس بسبب اجتهادات تتنافس لخدمة المصلحة العامة، بل على أساس “جماعة زيد” و “جماعة عبيد”.

ما تزال هذه الظاهرة ترهق موازنة الدولة المنهكة أصلاً، بالارتفاع المضطرد في أعداد رؤساء الوزارات والوزراء الأعلى في العالم. بالاضافة الى ما قال صاحب المذكرات أعلاه بشأن هذه الظاهرة، وهو صحيح، فانها تعتبر عائقا أساسيا أمام تبلور تجربة مؤسسية أردنية، ناهيك بها سداً منيعا يحول دون أي تنمية سياسية حقيقية.

ومع ذلك، تبدو هذه الظاهرة وكأنها أقنوم ثابت في ادارة الدولة بكل تداعياتها السلبية، التي تؤهلها للاندراج في سياقات الفساد والافساد. وهو ما يثير علامات استفهام عدة بشأنها، في أكثر من اتجاه.

ويسترسل بدران في غير موضع بمذكراته الموسومة ب”القرار” في الكلام عن مشكلة الأردن الرئيسة، منذ تأسيس الامارة عام 1921 وحتى يوم الناس هذا، متمثلة بما يصفه أحيانا ب”الضائقة المالية” أو “الظروف الاقتصادية والمالية الصعبة” أو “الأزمة الاقتصادية”. ويذكر أن وزير المالية أخبره أكثر من مرة أن “الموازنة شبه خاوية”، ولا يوجد فيها ما يكفي لدفع رواتب الموظفين. ويؤكد أن الأردن أفلس في شهر نيسان 1989، حيث هبطت موجودات البنك المركزي الى 150 مليون دينار من أصل 200 مليون، جاءت من السعودية كمساعدات طارئة.

هنا، يلتقي بدران مع الرأي القائل بأن الأردن يعيش على المساعدات الخارجية. ولا يتردد في تسميتها باسمها الحقيقي، “الشحدة”(ص 296). وعلى سيرة المساعدات الخارجية، يروي بدران في الصفحة (335) “أن الراحل الحسين عندما كان في زيارة للسعودية عام 1990، شرح للملك فهد الوضع المالي لشعبه، وأبلغه أنه لا يستطيع أن يكون ملكا على شعب مدين يقاسي، وبلا مساعدات، وأنه اقترح توحيد السعودية والأردن، ويصبح الملك فهد ملكا عليها، وأنه يريد التخلي عن المُلك، فقال الملك فهد:”أعوذ بالله”، فقال الحسين:”اذن لا يجوز معاملتنا بهذا الشكل”.

ومع ذلك، لا ينكر رئيس وزراء الأردن الأسبق أهمية المساعدات العربية للأردن، المالية منها والمادية كالنفط والحبوب. ويقر بأن الأشقاء لطالما هبوا لمساعدتنا. ويخص بالذكر دول الخليج، والعراق، وسوريا.

ولا شك أن الحديث عن المساعدات الخارجية للأردن، يثير أسئلة واخزة في نفس كل أردني. فلماذا كُتِبَ على الأردن انتظار المساعدات الخارجية دائما؟! ولماذا يجب على الأردنيين أن يدفعوا ثمن سياسات استعمارية لم يستشاروا بها أصلا، فرضتها عليهم خرائط سايكس بيكو؟ّ! والى متى سيتحمل الأردنيون مشاق الجري وراء الرغيف؟!

في ظل ظروف كهذه، فان الاصلاح السياسي بمفهوم الحاضر، يعتبر مسألة حياة أو موت بالنسبة للأردن. لكن صاحب “القرار” يفاجئنا بعائقين رئيسين يحولان دون أي تحول ديمقراطي حقيقي في الأردن، أولهما محلي.

ففي الصفحة (256) يقول، انه صباح اليوم التالي لانتخابات مجلس النواب الحادي عشر عام 1989، “زار الراحل الحسين رئاسة الوزراء، وسأل عن تقييم النتائج، وكان يجلس على الطاولة الأمير الحسن وأحمد اللوزي وزيد بن شاكر وأنا، وبدأ الجميع ينتقدون نتائج الانتخابات ويقولون:”كيف لنا أن نواجه مجلسا أغلبيته معارضة جاءت بالانتخاب؟”، وقالوا ان هذا المجلس (مش ابن عيشة)”. هذا يعني أن في الأردن قوىً متنفذة ترفض أي اصلاح سياسي جدي، ولا تتحمل مجلسا نيابيا يأتي في انتخابات حرة نزيهة، كما يصف بدران الانتخابات النيابية عام 1989. هذا بالنسبة للعائق الأول، أمام أي تحول ديمقراطي حقيقي في الأردن.

أما العائق الثاني، فنجده في الصفحة (265)، حيث تكفلت السعودية عام 1990 بتسديد مديونية الأردن البالغة مع فوائدها ثمانية مليارات دولار آنذاك، وبحل جذري لمشكلات الأردن الاقتصادية، مقابل حل مجلس النواب الحادي عشر. ويلفت بدران النظر الى أن كتلتي الأخوان المسلمين والقوميين واليساريين، وافقتا على حل المجلس ما دام في ذلك مصلحة أردنية. لكن احتلال العراق للكويت، وما تأدى اليه من تشكُّل اصطفافات عربية جديدة ورفض الأردن المشاركة في تحالف دولي ضد العراق، ألغى كل شيء.

وهكذا، فان ظروف الأردن الاقتصادية والمالية الصعبة دائما، تفرض عليه “مراعاة” سياسات المانحين وأخذها بنظر الاعتبار في قراراته وتوجهاته. هذا يعني ضمن أمور عدة، أن هناك قيودا فرضها التاريخ والجغرافيا على سياسات الأردن الداخلية والخارجية. وهذا وضع جغراسياسي غير طبيعي، حقيق بالتساؤل الى متى سوف يظل قائماً؟!

يبين بدران في مذكراته، ترابط السياسة والأمن والاقتصاد بالنسبة للأردن. فالأمن يأتي بالاستثمار، وبهما تتحقق حالة اقتصادية متطورة. ولقد ترجم اهتمامه بالجانب الاقتصادي، بعد تشكيل حكومته الأولى عام 1976، حيث وضع خطة لانجاز سبعة عشر مشروعا تنمويا ضخما، منها شركة البوتاس، وتوسعة الفوسفات في الشيدية، وتمديد قناة الغور الشرقية، ومياه عمان، وانشاء الأفران الأوتوماتيكية، وتوسعة المصفاة، وانشاء صوامع الحبوب، وشبكة الاتصالات.

يقدم بدران نفسه في مذكراته رجل دولة، يتميز بحنكة في الادارة والتسيير القيادي، ويؤمن بالاصلاح السياسي ومن أنصار التحول الديمقراطي. كما يروي ما يولد انطباعا لدى القارئ بأن صاحب المذكرات، سياسي بارع ذو شخصية قوية. فقد كان يناقش الملك الراحل، ويخالفه الرأي بما يعتقد أنه في مصلحة الأردن. وكان الملك ينفعل ويغضب منه أحيانا، لكنه لا يلبث أن يشكره على مواقفه بعد أن تتأكد صحتها.

وعلى صعيد القضية الفلسطينية، يبدو الرجل في مذكراته ذا بصيرة سياسية. ففيما يتعلق بما يُسمى عملية السلام، يرى ” أن المفاوضات مع الاسرائيليين ونحن في حالة ضعف عربي، لن تنتج أي اتفاق سلام بل سيكون اتفاق استسلام”(ص339). وقد رفض المشاركة في أي لقاء مع الاسرائيليين، وانسحب من المشهد السياسي عام 1991، قبل انعقاد مؤتمر مدريد.

وفي أكثر من صفحة، يعبر عن قلقه، نتيجة تطورات معينة، من تسوية القضية الفلسطينية على حساب الأردن. ويسرد من الوقائع ما يؤكد رفضه للضغوط الأميركية على الأردن، لأهداف سياسية بعضها يتعلق بحل القضية الفلسطينية، وبخاصة تلك التي تمارس من خلال السفير الأميركي في عمان.

يتشكل لدى قارئ المذكرات انطباع عام بأن الأردن يُدار بكفاءة عالية وبصيرة سياسية نافذة ورؤى استشرافية ناضجة، على الرُّغم من صعوبة الظروف. يقول بدران في الصفحة (241):”لست ارتجاليا في اتخاذ القرارات، وكل خطوة عندي تخضع لتفكير طويل ودقيق”.

ونعتقد أن الانطباع ذاته، سيتخلق في نفس من يطالع مذكرات رؤساء وزراء آخرين. واذا كان الأمر كذلك، فما الذي حصل للأردن خلال العقدين الأخيرين؟! لماذا وكيف وصلنا الى ما نحن فيه اليوم من أزمة اقتصادية خانقة، تتبدى في مديونية تقترب من خمسين مليار دولار ونسبة بطالة تصل الى 50% وجيوب فقر تتسع؟!

ونعتقد أن ما طرحنا من أسئلة وتساؤلات، تصب كلها في مجرى واحد لتشكل السؤال المفصلي الأهم: الأردن الى أين، وأي مستقبل ينتظرنا؟!

غاية المنى، أن يلوح في الأفق ما يدعو الى التفاؤل.





هلا اخبار عبر اخبار جوجل
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق