أخلاق الصورة وهدية الصدفة لسماسرة الشهرة

غيث الطراونة .. الغد

الهدف ليس محاكمة الناس والحكم على ردود أفعالهم بسبب الغضب أو الحزن أو الخوف، فهذه الأفعال في أغلب الأحيان لا تعبر عن حقيقة هذا الشخص، ولا عن سلوكه الاجتماعي ضمن السياق العام للحياة، فنحن وبسبب طبيعتنا البشرية نميل لتضخيم الأشياء في عقولنا عندما نحب أو نكره، ما يجعلنا غير قادرين على رؤية الأمور على حقيقتها في كثير من الأحيان.

وأعتقد أن التنمر الذي نراه في كل مكان سواء على مواقع التواصل الاجتماعي وفي حياتنا الواقعية، نابع من قاعدة الميل للتضخيم، ورغبة العديد منا في تفريغ الغضب أو الحزن وحتى الفرح دفعة واحدة، دون امتلاكنا لمهارات إدارة الغضب تحديدا وشعور البعض بأنهم محصنون من التبعات القانونية.

في مقال سابق تحدثت عن الأقليات الصارخة ودورها في حالة التنمر المؤرقة، ولكن يبدو أن المسألة أكبر من هذه الفئة وأثرها المحصور في وسائل التواصل الاجتماعي، إذ بات كل واحد منا معرضا للتنمر وهو يمشي في الشارع لأن البعض أعطى لنفسه الحق في ممارسة الإساءة بدون قيد أخلاقي أو تبعة قانونية، ولأننا وللأسف، نعم للأسف (ما بنحب المشاكل).

الطبيب بات معرضا للضرب في غرفة الطوارئ وصاحب الرأي معرض للشتم والذم والقدح على صفحته على الفيسبوك أو حسابه على تويتر، والفتاة التي تقف في مركبتها على الإشارة الضوئية معرضة للتنمر لأنها تأخرت في الانطلاق خمس ثوان، وتطول القائمة لتصل إلى الاطفال الذين يتعرضون هم أيضا للتنمر بوسائل عدة.

صحيح أننا لا نعيش في المدينة الفاضلة لأنها اسطورة غير حقيقية، وهي من أكبر الأخطاء التي وقعت فيها البشرية عندما فكر أفرادها بالتمني، فنحن نريد أن تكون أمانينا حقيقية وهي ليست كذلك، ولكن المهم أن المجتمعات سعت لضبط إيقاع سلوك الأفراد فيها بالقانون ومنظومة القيم السائدة فيها، وصولا إلى بناء مجتمعي متماسك ومتزن.

الايقاع السائد لدى الأغلبية في مجتمعنا تحكمه العديد من الضوابط القيمية والسلوكية الإيجابية، ولكن نسبة لا تزيد على الواحد بالالف كفيلة بأن (تنغص عليه عيشته)، وهذا يجب أن يدفعنا جميعا للوقوف والتفكير في حلول اجتماعية وقانونية ناجعة.

والبعض يقول لك، "يا أخي بدكوا الناس تكون خانعة ما إلها رأي"، بالتأكيد لا ليس هذا المقصود أو المطلوب، بل على العكس المقصود هنا ليس تعليم الناس ثقافة الخنوع أمام التقصير ومواقع الخلل، بل تمكينهم من التعبير بحرية وكذلك احترام خصوصيتهم … حزنهم وفرحهم وغضبهم.

وهنا لا بد وأن أشير إلى سماسرة الشهرة ممن قادتهم الصدفة إلى موقع الحدث؛ أي حدث؛ ليخترقوا بعدساتهم خصوصية الناس … يوثقون أحزانهم وغضبهم وينشرونها غير آبهين بأي حساسية أخلاقية أو قانونية فقط ليحققوا المزيد من الإعجابات على صفحاتهم.

ويا ليت المسألة تقف عند هذا الحد، بل وصلت لوسائل الإعلام، التي من المفترض بأنها محكومة بمعايير مهنية وأخلاقية وقانونية مؤسسية، حيث باتت تتسابق وتتنافس مع هؤلاء الأفراد ليضعوا عدساتهم أمام طفلة حزينة أو رجل غاضب في لحظة ضعف ليفرغوا هذا الغضب أو الحزن وحتى الفرح دفعة واحدة.

علينا أن ندرك تأثير عدسة الكاميرا على هؤلاء نفسيا، فهي تحفزهم على الانفجار أحيانا والمبالغة في التعبير أحيانا أخرى، لأن الكاميرا تؤثر بكل بساطة في سلوكنا، كيف لا وهي ما تزال تؤثر في سلوك أعرق وأعتق المذيعين، وهم من تعامل مع العدسة على مدى عقود طويلة.

صحيح أن وسائل الإعلام مطالبة بتغطية الحدث من كل جوانبه، ولكنها مطالبة بالانتباه لأخلاقيات المهنة وإنسانيتنا في التعامل مع خصوصية الأفراد في لحظة الضعف.

فهذا كما قالت الأديبة أحلام مستغانمي زمن "الهوس المرئي" وتحدثت عن أخلاق الصورة ومروءة الموقف في التعامل مع الناس في لحظة ضعفهم، فمن يصدق كما قالت "النوايا الحسنة لمصور تتيح له الصورة حق ملاحقة جثث القتلى ببراءة مهنية؟".

وهذا يقودنا لتصريحات في غاية الأهمية لرئيس الوزراء الدكتور بشر الخصاونة، عندما قال إن الحكومة تعمل دوما على التصدي لكل من يستهدف زعزعة الأوضاع الأساسية لمجتمعنا وموروثنا القيمي والديني والثقافي، مؤكدا التزام الدولة والحكومة "بحماية كل فرد من أفراد مجتمعنا جسديا، ومن مظاهر التنمر التي تفضي إلى تهديد سلامة وحياة وأرواح البشر والتي تستغلها بعض العناصر الموغلة في التطرف للتحريض على أفراد ومواطنين".

باعتقادي أن هذه التفاتة مهمة جدا لأنها تؤشر على عمق وتداعيات التنمر على أمن المجتمع وسلامته، فالمسألة ليست مهمة الحكومة فحسب، بل مهمة يجب على الجميع، مؤسسات وأفراد، أن يعطيها حصة من جهده، عسانا أن نتمكن سويا من ردع التنمر بمختلف أشكاله.





زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق