قانون الكسب غير المشروع : ما الذي نريده حقا؟

د. محي الدين توق

منذ ان تم انشاء هيئة مكافحة الفساد (هيئة النزاهة ومكافحة الفساد فيما بعد) عام 2006 كأحد استحقاقات اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد لم تتوقف المعارك الجانبية حول ضرورة الهيئة بوجود نظام قضائي مستقر تتولاه سلطة دستورية مستقلة، وفي كل مرة يتم فيها ادخال تعديلات على تشريعات النزاهة ومكافحة الفساد تطل هذه المعركة برأسها وتكون النتيجة اضعاف التشريعات وتراجع التقييم الدولي للأردن. وللأسف الشديد حدت شيء من هذا النوع عند مناقشة تعديلات قانوني النزاهة ومكافحة الفساد والكسب غير المشروع من قبل مجلس الامة. لقد اقر مجلس النواب بغرفتيه قانون الكسب غير المشروع وتم إعادة قانون النزاهة ومكافحة الفساد لمجلس النواب من قبل مجلس الاعيان.

ان قانون الكسب غير المشروع الذي اقره مجلس الامة مؤخرا يمثل خطوة إضافية جديدة لتدعيم نظم النزاهة ومحاربة الفساد في الأردن، خاصة وانه تضمن مبادئ جديدة مثل المراجعة الدورية والتقديم الالكتروني للذمة المالية للمكلف. الا ان أحد بنود القانون قد عمل على اضعاف قدرة هيئة النزاهة ومكافحة الفساد في الرقابة على نمو الثروة غير المشروع، وقد يؤدي الى الحاق الضرر بالأردن وتقييمه الدولي في مؤشرات النزاهة ومكافحة الفساد الدولية. وليست هذه هي المرة الأولى التي يحدث فيها شيء من هذا القبيل، اذ حدث نفس الشيء في الأعوام 2012 و2014 عندما نوقشت تعديلات قانون الهيئة. وهنا بالذات اشير الى صفة تحويل طلب الهيئة للاطلاع على إقرار الذمة المالية لاي مشتبه به بارتكاب أفعال فساد من الصفة الوجوبية الى الصفة الجوازية. ومع احترامي للرأي القائل ان في ذلك احترام لاستقلالية القضاء الا اننا يجب ات لا ننسى ان دائرة اشهار الذمة المالية مسكُنة في وزارة العدل التي هي جزء من السلطة التنفيذية وأنها تتبع إداريا لوزير العدل وقد لا يتسق هذا الامر مع الممارسات الدولية الفضلى.

عندما تمت مناقشة مشروع قانون الكسب غير المشروع في ديوان التشريع والرأي العام الماضي طلب مني في حينها حضور الاجتماعات لا بصفتي وزيرا في الحكومة، بل بصفتي رئيسا للجنة الدولية المخصصة للتفاوض بشأن الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد، وذلك لضمان موائمة مشروع القانون مع الاتفاقية كونها أصبحت جزءا من المنظومة التشريعية الأردنية بعد ان تمت المصادقة عليها وفق الأسس الدستورية. حضر الاجتماعات في حينها ممثلون رفيعي المستوى من وزارة المالية والبنك المركزي ووحدة غسيل الأموال ورأس الجلسة بطبيعة الحال وزير العدل. كان وضع الأردن لدى مجموعة العمل الدولية المعنية بغسل الأموال وتمويل الإرهاب ولدى بعض المؤسسات المانحة والمؤسسات المالية العالمية الكبرى حرجا، مما استدعى ضرورة التأكد من ضمان هذه الموائمة ووفاء الأردن بالتزاماته الدولية.

ولوضع النقاش حول هذا الموضوع في السياق الصحيح والمناسب لابد من التذكير بان الغرض النهائي للاتفاقية الدولية هو “ترويج وتدعيم التدابير الرامية الى منع الفساد بصورة اكفأ وانجع” و”تعزيز النزاهة والمساءلة والادارة السليمة للشؤون العمومية والممتلكات العمومية”، وان الهيئات المنشئة لهذا الغرض يجب ان تتمتع “بالاستقلالية وان تتمكن من الاضطلاع بوظائفها بصورة فعالة وبمنأى عن أي تأثير لا مسوغ له”، لذا فأن أي تشريع او تدبير يمس او يتعارض او يتنافى مع هذا الغرض او يحد من قدرة الهيئة من القيام السليم بوظائفها يجب تجنبه وعدم اللجوء الية والا فان قدرة الهيئة سيمسها الضرر وليس في ذلك مصلحة للوطن.

ان الهدف الأساسي والفلسفة النهائية من وراء كافة التشريعات والتدابير الرامية لإقرار الذمة المالية للموظف العمومي والكشف عنها هو ضمان مكافحة الاثراء غير المشروع الناجم عن استغلال الموقع او النفوذ، او اختلاس الاموال العمومية، او تضارب المصالح او تسريب الموجودات للخارج، او غيرها من الأفعال التي تقود الى نمو ثروته بشكل غير طبيعي، او بما لا يتناسب مع دخلة المشروع، وذلك عن طريق كشف موجوداته قبل واثناء وجودة في موقع المسؤولية وبعد مغادرته لها بعد فترة يحددها القانون. ولضمان ذلك لجأت الدول لعديد التدابير والإجراءات التي أصبح البعض منها جزأ مما يسمى الان بالممارسات الفضلى. وعلى الرغم من ان الاتفاقية الدولية لم تتطرق للتدابير والإجراءات المحددة التي يمكن ان تلجا لها الدول لتحقيق الأغراض المذكورة أعلاه الا ان هناك نوعا من الاتفاق على مجموعة من المبادئ التي تؤطر الممارسات السليمة في مجال اشهار الذمة المالية ومراقبة نموها وخاصة في المجتمعات الديمقراطية وتلك الراغبة بالتحول، ومنها:

1 الإفصاح العلني والدوري عن الموجودات بمختلف انواعها واشكالها.

2 الرقابة المؤسسية المستقلة على نمو الثروة لدى الأشخاص المعرضين سياسيا.

3 الإفصاح والرقابة الالكترونية.

4 المراجعة الدورية والعشوائية لنمو الثروة.

5 التركيز على كبار المسؤولين والسياسيين بدل تشتيت الجهد على صغار الموظفين.

6 تفويض مهمة الرقابة لجهات حيادية ومستقلة.

7 فتح المجال امام الرقابة المجتمعية المنضبطة.

8 شمول بعض فئات كبار الموظفين وبعض الوظائف القيادية لأحكام اشهار الذمة المالية وللرقابة الى ما بعد التقاعد وترك الوظيفة العامة لعدد من السنوات قد تصل لخمس سنوات.

قد لا يكون من السهل في مجتمع كالمجتمع الأردني الانتقال فورا الى تشريع يفتح المجال امام تطبيق كافة المبادئ سابقة الذكر، الا ان مشروع القانون الذي رفعته الحكومة لمجلس النواب تضمن على الأقل احد هذه المبادئ الهامة وهو تمكين هيئة النزاهة ومكافحة الفساد وجوبيا، كمؤسسة مستقلة، من الاطلاع على الذمة المالية لمن يشتبه بارتكابه فعل فساد في حالة وجود مبررات معقولة لذلك، ومن المؤسف ان القانون الذي اقر جعل هذا الامر جوازيا وحسب تقدير الهيئة القضائية في دائرة اشهار الذمة المالية في وزارة العدل، وقد يكون السبب في الاعتقاد بان من شأن جعل هذا الامر “وجوبيا” فيه افتئات على السلطة القضائية. ويتناسى أصحاب هذا الرأي ان الهيئة تقوم بالتحقق من شبهة الفساد من قبل المدعيين العاميين فيها الذين هم منتدبون من السلطة القضائية أصلا، وفي حال توفر ادلة كافية لديها حول وقوعها تقوم الهيئة برفع الامر برمتة للسلطة القضائية لأجراء المقتضى القانوني.

ان جميع النقاشات التي جرت حول القانون قبل وبعد إقراره كانت بنية صادقة بلا شك، الا آتة عند مناقشة القضايا الكبرى كمحاربة الفساد الذي ووصفة كوفي عنان السكرتير العام السابق في تصديره للاتفاقية الدولية “بالوباء” الغادر لابد من النظر لهذه القضايا نظرة شاملة ومتكاملة لا تجزيئية، تأخذ بعين الاعتبار قوانين النزاهة بكليتها، والمصلحة الوطنية طويلة الأمد، والالتزامات الدولية التي اخذتها الدولة على عاتقها بموجب المواثيق والعهود الدولية التي صادقت عليها، والممارسات الدولية الفضلى التي ثبتت نجاعتها في اكثر من دولة واقليم. وفي هذا المضمار لا يضير أحد الاستماع للرأي المخالف وللخبراء الحياديين والمستقلين، فتنوع الآراء والأفكار فيه اغناء للنقاش وطريق اسرع للقبول والرضى والتوافق.





هلا اخبار عبر اخبار جوجل
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق