حول هوية «المجتمع» الوطنية

المهندس سمير الحباشنة

يُثار بين فترة وأخرى نقاش حول موضوع الهوية في الأردن، وخصوصاً في أوساط النخب والمثقفين، مع أنني لا أرى هذا الموضوع جاذباً لاهتمام عامة الأردنيين، الذين يعيشون حياة واحدة، بهموم وتطلعات واحدة، على كل تنوعاتهم الخاصة دينية كانت أو مكانية أو عرقية.

وأخالُ أن هذا الموضوع بالنسبة اليهم هو هامشي، وليس ذو أولوية، مقارنة مع التحديات والأسئلة الكبرى والأجابة عليها لأخراج البلاد من مأزقها الأقتصادي/ الأجتماعي المركب، الذي يضغط على حياة المواطنين، من فقر مدقع وبطالة تجاوزت نسبتها الـ 50% من هم في صفوف العمل.

إلا أن إثارة موضوع الهوية مؤخراً ربما يحتاج إلى نقاش مع الأستعانة بالتاريخ لرصد التبدلات التي أنتابت هذة الهوية طوال المئةعام الأخيرة.

إن هوية المجتمع الأردني قبل قيام الدولة، هي عربية بطبعة أهل بلاد الشام، وقد كان الأردنيون من أوائل من عبر عن تطلعات هذه الهوية، حيث كانت ثوراتهم تعبيراً حيوياً عن تطلعات العرب في الانعتاق والتحرر من تركيا، مثال ذلك ثورة الشوبك 1905، وثورة الكرك 1910، إضافة إلى مشاركاتهم البارزة في النشاطات السياسية الوطنية التي مهدت إلى الأستقلال وأنهاء الأستعمار التركي.

وأن الاتجاه الوطني العروبي، تم التعبير عنه كذلك بأنضواء الأردنيين وبكثافة في صفوف الثورة العربية وجيش «فيصل». ونتذكر هنا عبارة لورنس العرب الشهيرة بمناسبة انضمام البطل عودة أبو تايه وآلاف الأردنيين للثورة، إن قال: (أصبح للثورة العربية قائدها «فيصل» وأصبح للثورة محاربها «عودة»)..

وأن هوية الأردنيين الوطنية بمرجعيتها العربية قد ترسخت وصارت أكثر حضوراً عندما أُبرم العقد التاريخي بين زعامات الأردن والملك المؤسس رحمه الله، حيث تُبين المراجع من أن الأردنيين لم يعتقدوا للحظة أن قيام دولة في شرق الأردن هي نهاية المطاف، و كانوا مع الملك عبدالله المؤسس في سعيه لإنجاز وحدة العرب وعلى الأقل سوريا الكبرى والعراق.

وأن تلك الهوية قد عبرت فيما بعد عن نهجها «الفوق وطني» بالمشاركة الفعالة لأبناء شرق الأردن في الدفاع عن فلسطين في مرحلة الثورات الفلسطينية التي سبقت قيام «إسرائيل» وكذلك إبان حرب 48 حيث كان للجيش العربي الأردني الدور الأبرز عربياً في تلك المواجهات والحروب.

إن هوية الدولة الأردنية العروبية الوطنية، بقيت على عهدها بعد وحدة الضفتين، حيث قدم الأردنيون والفلسطينيون نموذجاً متقدماً وتطبيقاً عملياً ناجحاً لمفهوم الوحدة، وفي كل المقاييس. وقد كانت بحق، وحدة إندماجية ما كان لها أن تنفصم عُراها، لولا احتلال الضفة الغربية عام 1967، والحقيقة أن جوهر هذه الوحدة بمضمونه الاجتماعي والثقافي والنفسي ومن حيث تطلعات، بقيت على عهدها إلى اليوم.

فالقضية الفلسطينية بالنسبة للأردن هي قضية وطنية داخلية، وليست قضية قومية فقط، وهذا ما تحققه الوقائع منذ الاحتلال عام 1967 وحتى الآن.

إلا أن هوية المجتمع الوطني الأردني، قد طرأ عليها في السنوات الثلاثين الأخيرة تبدلات يمكن أن نصفها بالسلبية، وذلك بفضل عوامل هي في الحقيقة من صنع أيدينا.

إن الخدمة الوطنية الإجبارية وحياة الجندية في الجيش، هي «الآتون» الكفيل بصهر الشباب في إطار الهوية الوطنية وزرع مفاهيمها في وجدانهم وسلوكهم. وبالتالي فإن إلغاء أو تأجيل الخدمة الوطنية الإجبارية التي تم في مطلع التسعينات، قد حرم شبابنا طوال ثلاثين سنة من ذلك، فأدى إلى ضعف مفهوم الهوية في نفوس الأجيال الصاعدة.

إن قانون الصوت الواحد قد أوقع أضراراً على النفسية الأردنية، حيث أصبحت النيابة مرتبطة بالعشيرة أو العائلة أو المكان الجغرافي الضيق، فأدى ذلك إلى إضعاف مفهوم المصلحة الوطنية الواحدة والذي أنعكس سلباً على الهوية الوطنية.

كما أن الحكومات المتعاقبة قد أخطأت حين أنشأت جامعة في كل محافظة تقريباً، فقد أدى ذلك إلى أن المواطن يمكن أن يولد في محافظة ما ويتمم دراسته الأساسية والجامعية حتى الدكتوراة في نفس المحافظة، بل والعمل داخلها أيضاً. مما أدى إلى تورم الهويات الفرعية على حساب الهوية الوطنية. ونشهد الكثير من التعبيرات السلبية التي نجمت عن ذلك ومنها شغب الجامعات.

واعتقادي أن الملك عبد الله الثاني حفظه الله، عندما أشار عام 2010 الى أهمية الهوية الوطنية «الجامعة»، فأنه قد أنطلق من رصده لتلك المستجدات السلبية التي ذكرنا بعضها أعلاه، والتي جعلت من الهوية الفرعية تفوق من حيث أهميتها، الهوية الوطنية والمصلحة الوطنية العليا. وليس لمفهوم الهوية الجامعة أي أبعاد أكثر من ذلك، ولا يُحمل النص أكثر مما يحتمل.

وأعتقد أن ذلك الوضع الأستثنائي هو الذي دفع إلى جانب عوامل أخرى، جلالته إلى أن يشكل اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية، بقصد إعادة الألق والقوة لهويتنا الوطنية.

وبعد.. أن هويتنا الوطنية، ورغم كل ما يقال، ورغم بعض العوامل السلبية التي أضعفت كينونتها، فإنها هوية مستقرة، وإن المواطنين الأردنيين يعبرون في المراحل والأحداث الفارقة عن مدى التزامهم بمصلحة الوطن وتمسكهم بهويتهم الوطنية بمرجعيتها العربية وبقيم الإسلام وروح التسامح وتوقير الآخر، وأنها هوية متماسكة وتحتاج فقط إلى معالجة التشوهات الأقتصادية وآثارها الأجتماعية السيئة.

وكذلك تحريك المياه الراكدة فيما يتعلق بالحياة السياسية، والمتمثل كنقطة بدء بمنتجات اللجنة الوطنية لتحديث المنظومة السياسية، وضرورة استجابة المواطنين لما تضمنت من أفكار تقدمية، وأن يستجيب الأردنيين لرهان الملك عبد الله الثاني عليهم، بالتعامل بإيجابية مع المرحلة السياسية التي نحن على مشارفها، وأن يكونوا أكثر تمسكاً بوطنهم وبوحدتهم الوطنية، ليعمل الجميع معاً من أجل تحقيق ما نصبو إليه جميعاً.

والله من وراء القصد..

الرأي





زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق