متى كانت ظروفنا أفضل؟

حسين الرواشدة

في إطار محاولة إدامة حالة «الشؤم العام «، تستدعي بعض النخب الماضي الجميل، لترسيخ الإحباط واللاثقة، ورفض الواقع، وزيادة جرعة الشحن السلبي لدي الأردنيين، صحيح الماضي كان بسيطا وجميلا، لأننا كنا نريده كذلك، لكن متى كانت ظروفنا أفضل، ومتى كانت أوضاعنا الصحية والتعليمية، والخدمات التي لا نتلقاها أحسن مما عليه الآن؟

أليست مفارقة أن يكون رضا الأردنيين، وثقتهم بأنفسهم وبلدهم، في ظل الفقر وقلة الموارد آنذاك، هي ابرز سمات شخصيتهم، فيما يتبادلون اليوم التشكيك و الشكوى، والتذمر والسخط من واقعهم، على الرغم من أن حياتهم تغيرت، والخدمات المقدمة لهم زادت، وقراهم وبلداتهم أصبحت «مدنا» صغيرة، يتوفر فيها كل ما يحتاجونه، بأقل جهد، وأسرع وقت؟

‏ معادلة الماضي «الأجمل» و الواقع» الأغبر «، ( دعك من المستقبل الذي لا يطرح الكثيرون سؤاله ) تشكل «عقدة» لدى اغلبية الأردنيين، وتحديدا كتلة « الثلثين» التي انسحبت من المشاركة في العمل العام، و استغرقت باليأس والقنوط، وبالتالي اصبحت هذه المعادلة تحتاج إلى تفكيك وردود عاقلة ومقنعة.
أعرف -تماما- أن ذاكرة الناس تظل معلقة بالماضي، بدافع الحنين أو التمجيد، وأن هذا الماضي سيظل جميلا ومطلوبا في عيونهم، أعرف -ثانيا- أن مجتمعنا كان مزدحما، آنذاك، بصور التكافل والبساطة، والمحبة والتعاون، و تلك القيم هي صناعتنا نحن لا غيرنا.

لكن السؤل : هل صحيح أن ظروفنا بالأمس، أفضل مما هي عليه الآن. وهل تغيرت الدولة، اقصد اداراتها وخدماتها، ام اننا نحن الاردنيين تغيرنا ايضا ؟

‏قصة واحدة تكفي للتوضيح، أبناء جيلي، كانوا يذهبون للمدرسة الثانوية الوحيدة في اللواء (نهاية السبعينات من القرن المنصرف) مشيا على أقدامهم، لم تكن هنالك وسائل نقل عامة، المسافة التي يقطعونها يوميا 24 كيلومترا ذهابا وايابا، الكهرباء لم تكن وصلت، ولا شبكة المياه، النساء يحملن الماء من إحدى العيون على رؤوسهن، او على الدواب، عيادة القرية الوحيدة يعمل بها ممرض اخذ دورة في التمريض، والطبيب يزورها – احيانا- مرة في الأسبوع، أعلى راتب يتقاضاه المتقاعد، أو الموظف، لا يزيد عن 50 دينارا، وبالكاد يدبروا حياتهم من زراعة الأرض.

رحلة جبلية صعبة، بالطبع، أن تعود من المدرسة عصرا، ثم تنتظرك حزمة من الأعمال في الحقل، وفي ساعات قليلة من الليل تدرس على ضوء «سراج» الكاز.

أن لا تجد في جيبك ( شلن ) مصروف، المفاجأة أن أبناء صفي في التوجيهي حصلوا على أعلى المعادلات، على الرغم من غياب مدرسي الإنجليزي والعربي، فيما حصلت على المرتبة الأولى بالمحافظة.

‏ربما كان الماضي جميلا، لكنه كانا صعبا جدا، تصوّر لو أننا استغرقنا، آنذاك، بالتذمر والإحباط والشكوى، لو أننا اكتفينا بتحميل الدولة مسؤولية ما نحن فيه، وقعدنا عن العمل والطموح، ولم نجتهد، لو أننا جلسنا نندب حظنا، وانسحبنا من مدارسنا وارضنا، ثم كسرنا عصا الطاعة الأبوية، كما يفعل الكثير من أبنائنا هذه الأيام، النتيجة ستكون مزيدا من الفشل والبؤس، و القليل من الإنجاز، والخسارة ستتوزع على الدولة والمجتمع معا، كما يحصل الآن.

‏نعم، كان الماضي جميلا، لأننا -أقصد الأردنيين – شمّرنا عن سواعدنا، والتصقنا بالارض، واعتمدنا على انفسنا، ولم نحمّل المسؤولية لحكوماتنا واداراتنا العامة، وكأننا إن فعلنا ذلك ترتاح ضمائرنا، كما أننا، آنذاك، لم نغرق بما نحن غارقون فيه الآن، من اعتمادية على غيرنا، وتبادل الاتهامات فيما بيننا، ولم يكن ثمة نخب تبيعنا وتتاجر بآلامنا وأحلامنا، وتستهين بمقدراتنا، وتغطي بالمراوغة على عيوبنا، وتصرخ فينا لكي «نكفر» ببلدنا، او نغمض عيوننا على ما أنجزه، وما يواجه من تحديات، وما وصل إليه -بسببهم وبسبب تقاعسنا – من تراجعات وخيبات.

المهم، الآن، ان نفكر كيف يكون واقعنا افضل؟ لا بأس، يمكن أن نفتح عيوننا على الماضي، لنستلهم منه درس العمل والحركة، والقناعة والرضا، والانتماء للبلد، لا لكي نشيعه بالحنين، والمقارنات المغشوشة، يمكن ان نستعيد ثقتنا بأنفسنا ودولتنا ونتخلص من حالة السواد التي تلبستنا وتلبسناها، اذ لا خيار امامنا الا بالخروج مما نحن فيه، وبهمتنا فقط.

صدقوني ظروف حياتنا الآن افضل، التعليم والصحة والنقل والخدمات، وحتى المياه على ندرتها أفضل، نحتاج – فقط -أن نكون منصفين، وأن ننظر لبلدنا بعين المحب لا بعين الساخط، ولاداراتنا العامة بالنقد المنتج لا بالشتائم، وأن نحافظ على النعمة لكي لا تزول من بين أيدينا لا سمح الله.

ويبقى السؤال : متى كانت ظروفنا أفضل؟ فتشوا في معادلة الرضا والسخط، ومن يقف وراءهما، فهما مفتاح لفك اللغز الذي ضيعناه، فانسدت في وجوهنا الأبواب، ولا نزال نبحث عنه، ولم نجده للأسف.





هلا اخبار عبر اخبار جوجل
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق