سيخططون لمرحلة ما بعد الحرب

ماهر أبو طير

كل عمليات مسح الذاكرة الوطنية بخصوص فلسطين، لدى الأجيال منذ أكثر من ثلاثين سنة، انهارت فجأة، وإسرائيل لم تدرك لفرط غرورها أنها أيقظت فلسطين في ضمائر الغائبين.
هذه إحدى نتائج الحرب المهمة جدا، وإذا كان الكلام يبدو عاطفيا بنظر البعض إلا أنه ليس عاطفيا بالمعنى الحرفي، لأننا كنا أمام الملايين من العرب والمسلمين الذين نسوا فلسطين، وتناسوا وجود الاحتلال، وانشغلوا بقضايا ثانية، بل أصبحنا أمام أجيال مفصولة عن أمتها وعن قضاياها لصالح تيارات تغريبية في التعليم والثقافة والإعلام، وكانت نتائج عمليات غسيل العقل والوجدان تجري على قدم وساق، وساهمت وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي بهذه المهمة من خلال شطب رموز مهمة في حياتنا، وإحلال رموز تافهة تحت مسميات مختلفة.
سيأتي من يقول وما نفع كل هذه الصحوة اذا كانت كل هذه الأجيال لا تفعل شيئا مباشرا لفلسطين، وهي إما بعيدة أو مغيبة أو غير قادرة على الفعل لاعتبارات كثيرة، والإجابة هنا سهلة، لأن كل عمليات التخريب العقلية المتواصلة التي انتجت أجيالا نراها في العالم العربي ونتأسف على حالها وأحوالها، انقلبت اليوم على أصحابها، وليس أدل على ذلك من ارتفاع منسوب العودة إلى الدين مثلا، أو منسوب التوقف الفعلي عن ممارسات قديمة كنا ندينها يوميا، والتوقف أيضا عن حالة التبرؤ الضمني أو خفض الاهتمام بقضايا تتعلق بكل المنطقة.
لا يكفي هنا أن نشير إلى المسيرات والمظاهرات التي خرجت في أغلب عواصم العالم وضمت جنسيات عربية وإسلامية، وأجنبية أيضا، لكننا نتحدث عن خزان الدم في هذه المنطقة الذي تعرض لحرب خطيرة خلال العقود الماضية من أجل حصره بقضاياه الذاتية الصغيرة، من خلال إعادة تشكيل شخصية الأجيال الجديدة وإشغالها إما بلقمة الخبز، أو بمفاسدها الصغيرة والكبيرة، أو حتى اعتبار احتلال فلسطين قضية ميؤوس منها لا يمكن التعامل معها، وفوق كل هذا مسح الوجدان العربي والإسلامي وفصل أجيال كثيرة عن عناوينها الأساس.
هذا يعني أن الردة الناعمة دون قصد، بما في ذلك التعامي عن عداوة إسرائيل، ردة انهارت فجأة وعلى الأغلب فإن المراقبين لاتجاهات الجمهور في الدول العربية والإسلامية يرصدون حالة الصحوة المستجدة، وربما يخططون اليوم لمرحلة ما بعد الحرب، من أجل التسبب بردة جديدة، أو إعادة الأجيال إلى قواعدها المزورة البديلة التي تم تصميمها خلال عقود.
كل أجهزة المخابرات الدولية ترصد اتجاهات الرأي العام في المنطقة، وربما تتورط في تحليلات خاطئة حول عودة التطرف إلى مستوياته، وربما اشتداده، برغم أنها تعرف الحقيقة وتحرفها، والحقيقة تقول إن رد فعل الإنسان العربي مثلا طبيعي اليوم، فيما حالة غيابه السابقة لم تكن طبيعية وتم إنتاجها في المختبرات المعتمة، فوق الحياة البائسة التي تم صنعها زورا للإنسان العربي في دول تعد غالبيتها ثرية أصلا، لكنها منهوبة ومسروقة في سياقات التجويع والإذلال وغياب حقوق الإنسان وغياب التنمية، وربما الاستهزاء بكل مطالبه المشروعة.
جرائم إسرائيل أيقظت الملايين مجددا، وأولئك غير القادرين على اجتراح رد فعل عملي لصالح فلسطين، سيأتي اليوم الذي يحولون فيه كل صحوتهم الجديدة إلى واقع مؤثر جدا.
نعم سيخططون لمرحلة ما بعد الحرب، من أجل إطفاء هذا النور الذي تجدد من حيث لا يحتسبون، وهذا يعني أن الحرب الأخطر ستكون على أجيال كاملة في كل المنطقة.





زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق