نحو بناء قطاع سياحي مرن ومستدام في الأردن
د. اسماعيل ابوعامود
في خِضَمِّ الأحداثِ السياسيةِ المُحيطةِ، علينا ألَّا نُغفِلَ الحديثَ عن أحدِ أهمِّ القطاعاتِ الاقتصاديةِ المحليةِ، والذي يُسهمُ في رَفدِ الاقتصادِ الوطنيِّ بالعملةِ الصعبةِ ويُوفرُ عددًا كبيرًا من فُرَصِ العملِ، وهو القطاعُ السياحيُّ. فقد شهدَ القطاعُ السياحيُّ عالميًا تعافيًا ملحوظًا في عامِ 2024 بعدَ سنواتٍ من التحدياتِ الاقتصاديةِ والسياسيةِ التي أَلقتْ بظلالِها على الحركةِ السياحيةِ. وأظهرتْ مؤشراتُ السياحةِ العالميةِ أن عددَ السائحينَ سيصلُ بنهايةِ عامِ 2024 إلى 1.53 مليار سائحٍ، وهذا يُمثلُ نموًّا بنسبةِ 17.23% مقارنةً بالعامِ السابق. إلا أن هذه الأرقامَ العالميةَ تُخفي واقعًا مختلفًا في بعضِ الدولِ، ومنها الأردنُ، الذي يُواجهُ تحدياتٍ خاصةً نتيجةَ عدمِ الاستقرارِ السياسيِّ في المنطقة.
أردنيًا، وبحسبِ الأرقامِ الرسميةِ، شهدَ القطاعُ السياحيُّ تراجعًا في أعدادِ الزوارِ خلالَ النصفِ الأولِ من عامِ 2024 بنسبةِ 7.9% مقارنةً بالفترةِ ذاتِها من العامِ الماضي. إلا أنَّ بعضَ التقديراتِ تُشيرُ إلى تراجعٍ تجاوز 50%، ما أثَّرَ سلبًا على الدخلِ السياحيِّ.
تحدياتُ القطاعِ السياحيِّ في الأردنِ ليست جديدةً، فقد أظهرتْ تجاربُ الأزماتِ السابقةِ، مثل جائحةِ كورونا، الحاجةَ الملحةَ لتعزيزِ مرونةِ القطاعِ وجعلهِ أكثرَ قدرةً على مواجهةِ الصدمات. ومع ذلك، فإن تعافي القطاعِ على المستوى العالميِّ يمنحُ الأردنَ فرصةً لإعادةِ تقييمِ استراتيجياتِه السياحيةِ والتكيفِ مع التوجهاتِ الجديدةِ في السوقِ، مع التوقعاتِ بعودةِ الحركةِ السياحيةِ إلى المنطقةِ خلالَ النصفِ الثاني من عامِ 2025، يتوقع ان يشعد القطاعٍ نمواكبيراً في عامِ 2026.
ولضمانِ استدامةِ هذا النموِّ وتعزيزِ مكانةِ الأردنِ كوجهةٍ سياحيةٍ رئيسيةٍ، يتطلبُ الأمرُ اتخاذَ خطواتٍ جريئةٍ لدعمِ القطاعِ. على رأسِ هذه الخطواتِ يجبُ أن تكونَ استراتيجياتُ التطويرِ مرنةً ومتعددةَ المحاورِ، تضمنُ استقرارَ القطاعِ. أولى هذه الخطواتِ تتمثلُ في إنشاءِ صندوقِ مخاطرٍ يعتمدُ على مفهومِ التأمينِ، يغطي جوانبَ متعددةً مثل الرواتبِ أو تكاليفِ التشغيلِ والتسويق، ويتركُ للشركاتِ السياحيةِ حريةَ اختيارِ الحزمةِ التأمينيةِ المناسبةِ.
كما يُمكنُ تنويعُ المنتجِ السياحيِّ ليشملَ أنواعًا جديدةً من السياحةِ، مثل السياحةِ البيئيةِ وسياحةِ المغامراتِ، التي تشهدُ إقبالًا متزايدًا على “السياحةِ المسؤولةِ” أو “السياحةِ الصديقةِ للبيئة”. وتشيرُ الدراساتُ إلى أنَّ 68% من السائحينَ يُفضِّلونَ هذه الأنواعَ من السياحةِ، مما يعني أن “سياحةَ التجربةِ” أصبحتْ توجهًا عالميًا متناميًا. هذا يتطلبُ تسويقَ المخزونِ السياحيِّ غيرِ المعروفِ في الأردنِ وتسليطَ الضوءِ على المكونِ الثقافيِّ والتراثيِّ الغنيِّ للمجتمعاتِ المحليةِ.
لتنفيذِ ذلك، يجبُ تطويرُ قاعدةِ بياناتٍ شاملةٍ تشملُ المواقعَ السياحيةَ وعواملَ الجذبِ والخدماتِ المتوفرةِ وكافةَ العاملينَ في القطاعِ السياحيِّ في الأردنِ، مع التركيزِ على رفعِ مهاراتِهم في استخدامِ التكنولوجيا الحديثةِ وتعزيزِ قدرتِهم على تقديمِ خدماتٍ عاليةِ الجودةِ، خاصةً في المناطقِ الريفيةِ التي تجذبُ السياحةَ، وتوفير تمويل مناسب للمشاريع الصغيرة. ذلك يُسهمُ في تعزيزِ مستوى رضا الزوارِ ويجعلُ من الأردنِ وجهةً مفضلةً للسياحةِ التجريبيةِ، مع تفعيلِ نظامٍ موثوقٍ لتلقي التغذيةِ الراجعةِ من السياحِ.
كما يجبُ تخفيفُ القيودِ المفروضةِ على بعضِ الجنسياتِ، مما يسمحُ لها بزيارةِ البلادِ ضمن برامجِ سياحةٍ مُعدَّةٍ مسبقًا بالتعاونِ مع الشركاتِ المحليةِ. وعلى صعيدِ البنيةِ التحتيةِ، هناكَ حاجةٌ لتطويرِ شبكةِ الطرقِ وتوفيرِ وسائلِ نقلٍ متكاملةٍ تسهلُ حركةَ السياحِ بين المواقعِ السياحيةِ المختلفةِ. كما ينبغي تقديمُ حوافزٍ للاستثمارِ في الإقامةِ الفندقيةِ ومرافقِ الضيافةِ في المناطقِ ذاتِ المقوماتِ السياحيةِ، مع التركيزِ على الاستدامةِ البيئيةِ لضمانِ الحفاظِ على البيئةِ الطبيعيةِ للأردن.
ولا يقتصرُ الأمرُ على البنيةِ التحتيةِ فقط، بل يجبُ العملُ على رفعِ كفاءةِ العاملينَ في القطاعِ السياحيِّ من خلالِ برامجِ تدريبٍ متخصصةٍ تُعززُ من مهاراتِهم في خدمةِ الزوارِ الدوليين. إضافةً إلى ذلك، تمكينهم من استخدامُ الأنظمةِ الرقميةِ للحجوزاتِ والدفعِ لتسهيلِ عمليةِ تقديمِ الخدماتِ وزيادةِ كفاءتِها.
ولا يمكنُ إغفالُ دورِ القطاعِ الخاصِّ، حيثُ يتطلبُ تعزيزُ الشراكاتِ بينَ الحكومةِ والقطاعِ الخاصِّ والمجتمعاتِ المحليةِ لضمانِ تنفيذِ استراتيجياتِ تطويرِ السياحةِ بنجاح. من خلالِ العملِ المشتركِ لتحقيقُ نقلةٍ نوعيةٍ في القطاعِ السياحيِّ، مما يُسهمُ في خلقِ فرصِ عملٍ جديدةٍ وتعزيزِ الاقتصادِ المحليِّ بشكلٍ مستدامٍ، وتحويلِ الأردنِ إلى مركزٍ إقليميٍّ (hub) للسياحةِ في المنطقةِ.
وأخيرًا، لا يمكننا نسيانُ دورِ وزارةِ السياحةِ الأردنيةِ والمؤسساتِ المعنيةِ في الحفاظِ على استقرارِ القطاعِ السياحيِّ من خلالِ برنامجِ “أردننا جنة”، الذي ساعدَ في دعمِ السياحةِ الداخليةِ وتخفيفِ حدةِ الأزمةِ التي يمرُّ بها القطاع. لكنَّ المرحلةَ القادمةَ تتطلبُ التوسعَ نحوَ استهدافِ أسواقٍ جديدةٍ. لذا، يمكنُ إطلاقُ برنامجٍ مشابهٍ لبرنامجِ “أردننا جنة” يستهدفُ السياحةَ الخارجيةَ، بالشراكة مع الشركاتُ السياحيةُ الأردنيةُ لاستقطابِ سياحةٍ دوليةٍ.
إن استراتيجياتِ تطويرِ السياحةِ في الأردنِ يجب أن تكونَ شاملةً ومبتكرةً، تُعززُ من التنوعِ وتقديمِ تجاربَ جديدةٍ تستثمرُ التراثَ الثقافيَّ والبيئيَّ. الأردنُ يمتلكُ كلَّ المقوماتِ ليُصبحَ وجهةً سياحيةً رئيسيةً في المنطقةِ، لكنَّ ذلك يتطلبُ تبني استراتيجياتٍ شاملةٍ ومتجددةٍ تدعمُ النموَّ المستدامَ وتعززُ من قدرةِ القطاعِ على مواجهةِ الأزماتِ، مع التركيزِ على تعزيزِ السياحةِ البيئيةِ والتجريبيةِ التي تمثلُ مستقبلَ السياحةِ العالميةِ.