في الرد على التحية الملكية والأفق المفتوح أمامنا
سامح المحاريق
حظيت بفرصتين للحديث مع جلالة الملك بما سمحت به الجلسة من استفاضة. كانت المرة الأولى سنة 2011، والثانية في العام الماضي.
في كلتا المرتين، كان الحديث عن الإصلاح السياسي، وهو الطريق الطويل الذي اعترضته عوامل كثيرة ومعقدة، منها الأزمات المتتابعة، ولا يمكننا أن نظل نرددها في كل مرة تتاح فيها فرصة الكتابة؛ من الربيع العربي إلى الحرب على غزة، وبينهما انعطافات كثيرة أمنية وسياسية واقتصادية. ومع ذلك، تحدثت للملك في 2011 عن الاستغراق في الأيديولوجيا من بعض الأحزاب القائمة، حتى بدا وكأنها لا تمثل قضايا أردنية بالمطلق، ووجود أحزاب أخرى لا تشكل سوى فرص للتقاعد والترقب للفرص. فأخبرني جلالته بأنه اطلع على برنامج لأحد الأحزاب ووجده مجرد إنشاء لا يقدم أي محتوى حقيقي.
في العام الماضي، كان هناك لقاء آخر في الديوان الملكي، ويبدو أنني انتقلت من خانة الشباب خلال هذه السنوات لأحضر مع شخصيات تمتلك تجربة بيروقراطية وتكنوقراطية متقدمة. ولكن ترتيب الأفكار الذي تحدثت به في اللقاء الأول تحول إلى بعض التشوش، وبدت لهجة الإحباط عميقة في حديثي، ووقتها كانت ملامح الملك تشي بابتسامة هادئة، وكان رده إيجابياً، وكأن خالصته: هانت.
خرجت من الاجتماع راضياً لأني تحدثت بأقصى حدود الصراحة، ولأني لمحت شيئاً لم أكن مستنداً على أية معلومة للتكهن به بالصورة اللازمة. ولكن وضعت في ذهني نقطتين رئيسيتين:
الأولى: أن الرؤية الملكية في بداية الألفية كانت تتجاوز بمراحل التجربة المغربية، ولكن بلدًا بجودة الطاقات البشرية التي يملكها الأردن سيقفز إلى مرتبة متقدمة عالمياً على المستوى الاقتصادي، وبالتالي السياسي والاجتماعي، لو تمكنا فقط من نقله إلى شرق آسيا، أو وجدنا له مكانًا في منطقة البلطيق، أو حتى في شرق أو جنوب إفريقيا. ومع ذلك، كانت صعوبة الطريق ووعورة تفاصيله تستدعي التمهل في مراحل كثيرة.
الثانية: أنه كثيراً ما يتم الاختباء وراء الملك. فكلمة “فوق” التي يشيع استخدامها لإيحاء بأن تصرفاً أتى من الملك شخصياً، تُستخدم كمسوغ لدى شخص ما أو جهة معينة لتمرير ما يخدم مصالحه المباشرة أو غير المباشرة. في الحقيقة، هذا في العادة وكثيراً ما يكون غير صحيح ومنفصل عن الواقع.
وأخيراً، أتت نتيجة الانتخابات الأخيرة بفوز الإخوان المسلمين، وبصورة لم يتوقعها حزب جبهة العمل الإسلامي نفسه، ولم تكن واردة حتى بين المتفائلين والمتحيزين لمصلحتهم. كانت هذه النتيجة رسالة أن الجميع جزء من الدولة، فلا يوجد حزب دون آخر يمكن أن يدعي أنه حزب الدولة؛ فجميع الأحزاب المرخصة هي أحزاب الدولة على السواء.
قد تكون لدى الإخوان إشكاليات كثيرة، ومنها الاعتماد على الخطابية والشعاراتية في مواجهة تحديات واقعية كثيرة. والمشكلة في الحزب أنه يأتي من أيديولوجية قد تعتبر تواضعها لمستوى الدولة القطرية الحديثة عملاً تكتيكياً يجب أن يصب، أو على الأقل ألا يتعارض، مع مشروع أوسع. وهي نفس الإشكالية القائمة لدى القوميين، وبحدود متباينة بين اليساريين. ولكن ذلك يمكن أن يكون موضعاً للنقد الذاتي وللحوار في حالة الرغبة الحقيقية في مواجهة التحديات القائمة بصورة فاعلة ومنتجة.
في الرد على التحية الملكية والأفق المفتوح أمامنا، قدم الأردن انتخابات نزيهة وفق الشهادات الدولية المهمة، ونتائجها ناطقة بكل التفاصيل التي بقيت خفية وعرضة للتأويل. وخيبت بالقطع جميع من حاولوا الاختباء في هوامش الخطاب الملكي وتفسيره على عاتقهم ولمصلحتهم.
ولكن جانبًا كبيرًا من فوز الإخوان المسلمين أو جبهة العمل الإسلامي كان قائماً على قدرتهم على التنظيم، وهو الأمر الذي افتقده اليساريون بشكل عام.
مع أن الملك منحهم جميع الإشارات الإيجابية في لقائه مع بعض قياداتهم ونخبهم سنة 2012 في لقاء يمكن اعتباره الأكثر انفتاحًا ودفئاً مع أي من القوى السياسية في الأردن.
وقد كتب جانباً من تفاصيله الكاتب الراحل ناهض حتر في مقاله “الملك: أنا يساري” المنشور في 12 ديسمبر 2012 ونقل فيه عن الملك استعداده لدعم صيغ يسارية في مجالات محددة، ونص المقولة الملكية: “أنا يساري في التعليم والتأهيل والصحة والمرأة.”
للأسف، بقي اليساريون، ومن حقنا أن نعتب عليهم بقدر المحبة التي نحملها، منشغلين ومتشاغلين بمجريات الأحداث في أكثر من عاصمة عربية غير عمان، في محاولة اختزال حقائق متشابكة ومعقدة في نموذج يظهر وكأنه “موقف”، بينما في حقيقته يعبر عن اللاموقف تماماً، بكل ما يحمله من تمترس وسلبية. في الوقت الذي تمتلك فيه العواصم الأخرى التي تشاغل أطياف اليسار هوامشها ورؤيتها للأحداث والأولويات ومصالحها، التي قد لا تكون مصلحة الأردن أو تفهم ظروفه وسياقاته من ضمنها على الدوام.
الهندسة الانتخابية كانت غائبة، ولم يكن ذلك يحتاج ذكاءً لأي محلل يحتفظ بالسجلات والمسارات التاريخية. فقراءة الفتات المرشحين كانت كافية لندرك أنه لا توجد رغبة في التحيز من قبل أي جهة. ويبدو أن الملك نفسه، وهذا تخمين وليس معلومة، أكد بوضوح ضرورة البقاء على مسافة واضحة من الجميع، لتجنب تفخيخ الانتخابات من خلال نتائج مخيبة قد تلحق ضرراً بمسيرة التحديث السياسي.
يلتفت لذلك كله الإعلامي الذي لا يفتقد الذكاء أو الخبرة، ياسر أبو هلالة، وهو يدعو الإخوان لأن يردوا التحية لجلالة الملك بمثلها أو أحسن منها. أما مثلها، فهو الاشتباك المباشر مع القضايا الملحة والساخنة والعملية التي تؤثر إيجاباً على حياة المواطنين وتفتح أمامهم آفاق الأمل في ظل تحديات ضاغطة أمام البلد. وأما ما هو أحسن منها، وهو ما يمكن أن نفهمه من سياق حديث أبو هلالة (بالرحمة والبركات)، أن يحرص الإسلاميون على بناء نموذج حقيقي يصلح لاستكمال مسيرة الإصلاح، فلا يستغرقوا في المعارك الجانبية والمناكفات والاستعراضات وتصفية الحسابات. عليهم أن يتواصلوا بشكل إيجابي مع القوى الفاعلة المختلفة لبناء تكتل حقيقي يخرج التجربة السياسية الأردنية من معادلاتها السابقة (ممن يعتقدون أن المجلس النيابي الأردني تعبير عن لويا جيرغا محلية للشيوخ والوجاهات، أو منصة لتمثيل الاحتكارات المالية والتجارية) تجاه عمل حقيقي لاستكمال التقدم بثقة وثبات نحو حكومة حزبية وطنية واقعية ومسؤولة ومتحررة من أعباء الماضي وتجاربه السلبية.
يمكن القول إن السفينة دشنت للماء، في الوقت الذي عمل فيه الكثير، بصورة قصدية أو غير قصدية، على تعطيل عملية بنائها. ولكن المهم، أن تكون السفينة قادرة على مواجهة العواصف المقبلة.
لن يقول الملك يوماً للأردنيين “ألم أقل لكم؟” لا مكانته الدستورية ولا سجاياه الشخصية تجعل هذا محتملاً أو وارداً. ولكن على الإخوان، ومعهم المؤمنون بالإصلاح السياسي، أن يفوتوا الفرصة على من يقول لجلالة الملك: “ألم نقل لك سيدنا؟”
(الرأي)