«التهجير» بين الفكرة والفكر

رجا طلب

ارتبطت سياسة التهجير تاريخيًا بالاستعمار وبالإبادة الجماعية لعدد ليس بقليل من الشعوب، ويمكن اعتبار القرن الخامس عشر أو ما سمي “بعصر الاستكشاف” على يد الاستعمار البرتغالي والاستعمار الإسباني هو البداية السوداء لهذا التاريخ الوحشي، حيث مارست الإمبراطوريتان البرتغالية والإسبانية سياسات إبادة جماعية ومذابح وحشية للسكان الأصليين في الأمريكيتين وأفريقيا وأستراليا بالإضافة إلى آسيا. وقد استمرت هذه السياسات الوحشية ضد الشعوب الأصلية في عشرات الدول في تلك القارات، وفي بعض الدول فيها استمرت حتى بداية الثمانينات من القرن الماضي. وقد أعقب البرتغال والإسبان كل من الإنجليز والفرنسيين والألمان والهولنديين، وكانت حصيلة هذه الحقب من التهجير والإبادة تتراوح بين 100 إلى 150 مليون شخص، وهي تقديرات تاريخية متواضعة.

لقد جاءت “إسرائيل” امتدادًا طبيعيًا لذلك الفكر الأوروبي، خاصة أن “وعد بلفور 1917” كان البداية الرسمية لتطبيق سياسة (الإبادة ثم التهجير ثم التوطين)، وهي التي مورست عمليًا في كل مكان دخله المستعمر الأوروبي، لأن وعد بلفور كان نتاج فكر أوروبي للخلاص من اليهود أو البحث عن حل لما أطلق عليه في أوروبا “المسألة اليهودية”، والذي جاء بصورة أساسية على حساب الشعب الفلسطيني. حيث كانت تمارس أوروبا سياسات تحقيرية ضد اليهود، ومُنعوا من العمل بالكثير من المهن وعاشوا في أحياء معزولة وفقيرة عن بقية السكان (أحياء اليهود). وكل ذلك كان على خلفية تاريخية – دينية هي واقعة “قتل السيد المسيح” ومعاقبة اليهود عليها.

في ثنائية الإبادة والتهجير، سنجد أن بريطانيا التي كانت تحتل فلسطين وكانت بمثابة “الركن الذهبي” في الخلاص من اليهود من بريطانيا وأوروبا، شجعت ودعمت الحركة الصهيونية ووفرت كل الظروف لاحتلال فلسطين من قبل العصابات الصهيونية، ثم سلمت فلسطين رسميًا لها ليبدأ الاحتلال الإسرائيلي. حيث كشفت الوثائق البريطانية عن خطة سميت خطة “الترانسفير عام 1937″، وأسميها أنا خطة بن غوريون، والتي كان هدفها طرد الفلسطينيين إلى الأراضي العربية المحيطة بفلسطين التاريخية، وهي في الوضع الراهن الأردن وسوريا ولبنان ومصر.

واليوم، وبعد 108 سنوات من وعد بلفور، يأتي وعد جديد بتهجير سكان غزة إلى خارجها، وهو عهد ووعد تدعمه الدولة الأكبر في العالم، وجاء على لسان الرئيس دونالد ترامب. وسؤالي هنا:

هل مثل هذا المقترح هو قابل للتطبيق أم لا؟

يبلغ سكان غزة اليوم أكثر من مليوني نسمة بأقل تقدير، وهم من ناحية عملية يعيشون في ظروف طاردة، وبخاصة في ظل هذا الشتاء القارس القاتل، وعدم وجود أدنى مقومات للحياة، لا ماء ولا مسكن ولا غذاء ولا دواء.

سلفًا، وأنا هنا أجازف بمصداقية رؤيتي السياسية تجاه خطة وزير الأمن الإسرائيلي “إسرائيل كاتس”، الذي أعدها لتسهيل الخروج الطوعي لسكان غزة، ووفر لهم المعابر والمطارات، وأجزم أنها سوف تفشل فشلًا ذريعًا، وذلك لما يلي:

هؤلاء الغزيون هم في أغلبهم هُجّروا من الأرض التاريخية التي تقوم عليها “دولة إسرائيل”، وما زالوا هم ومن يعيشون من أمثالهم في الضفة يعيشون كارثة اللجوء ويتوجسون من أي فكرة تبعدهم عن بقعة الأرض الفلسطينية التي يعيشون فوقها، لأن العقيدة الدينية أو الوطنية والثقافية تجرّم القبول بذلك، وبدواخلهم فكرة أخذ الثأر أو العودة والتحرير.

بحكم القسوة والاضطهاد والجبروت الذي عاشه أبناء غزة من قبل الاحتلال منذ 1948 إلى اليوم، فقد أصبح القطاع وأهله “بيئة مقاتلة” للاحتلال، وتحديدًا بعد عام 2007، وقد أثبت السابع من أكتوبر هذه الفرضية.

أغلب أبناء قطاع غزة هم من الجيل الجديد (16 سنة وما فوق)، وهؤلاء بالنسبة لهم الصمود والقتال في غزة هو أمر إلهي واجب تنفيذه.

أعتقد أن مثل هذه المعطيات، إن توفرت للرئيس ترامب، سوف تجعله يتراجع عن تصريحاته بخصوص دعم نتنياهو بتهجير سكان غزة إلى خارجها، وتحديدًا إلى مصر والأردن والسعودية.

الرئيس ترامب ينظر للعالم باعتباره مشروعًا استثماريًا – عقاريًا، ولكن أتصور أنه بدأ يكتشف أن الأمر مختلف تمامًا وأصعب بكثير مما كان يعتقد.

(الرأي)






زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق