فرملة ترامب.. خطوة لاختراق الأفكار المسبقة
سامح المحاريق

في أجواء مرتبكة ومعقدة وصعبة، وصل الملك إلى البيت الأبيض ليكون القائد العربي الأول الذي يلتقي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في ولايته الثانية. وعلى الرغم من أن الزيارة أتت بعد تصريحات صاخبة من الرئيس الأمريكي، إلا أن المخرجات الرئيسية أظهرت أن سردية أردنية بشكل خاص، وعربية بشكل أوسع، وضعت في مقابل السردية الإسرائيلية التي تفردت بأسماع الرئيس ترامب في الفترة الماضية، وبما يعني إمكانية التفاوض حول خطوات عملية للبحث عن حلول ومقاربات أخرى غير التي قدمها الرئيس الأمريكي قبل أيام.
ما الذي تريده الولايات المتحدة ضمن استراتيجيتها الواسعة؟
لا يمكن أن نفصل بين الذي يحدث من صراع مع الصين وكندا والمكسيك، عن سياق عالمي، يعتبر الشرق الأوسط جزءاً منه، وما يريده الرئيس الأمريكي هو شرق أوسط هادئ، يتكامل مع مكتسبات سريعة حققها ومنها انسحاب بنما من مبادرة الحزام والطريق مع الصين، والعودة التدريجية إلى الفضاء الأمريكي الأوسع. ولذلك، فالحديث عن “سلام” أمريكي، لا يتناقض كلياً مع “السلام” الأردني. وسلام أمريكا من غير “ال” التعريف، هو الوصول إلى منطقة منسجمة، ومن يتقدم لقيادتها سيصبح متكاملاً مع الأمريكيين. أما “السلام” الأردني المعرف، فهو السلام الذي يحافظ على مصالح المملكة الأردنية الهاشمية ومنجزاتها التي تراكمت على امتداد أكثر من قرن من الزمن، وحقوق الشعب الفلسطيني في حياة كريمة في دولة فلسطينية مستقلة تستطيع أن تعبر عن تاريخه وتطلعاته المستقبلية.
الهوة واسعة حالياً، ولكن الأردن ما زالت متمسكة إلى اللحظة بحل الدولتين، وتطرحه خياراً وطنياً، والخطاب الملكي لم يغادر هذا المبدأ. أما فيما يتعلق بقطاع غزة، فالواضح أن الأردن يواجه تحدياً متعدد المستويات، فالأردن يبدي تعاطفاً كاملاً مع أهالي قطاع غزة والمأساة الممتدة التي يعيشونها، ولكنه لا يسلم بأن ينفصل ذلك عن سياق القضية الفلسطينية. فالجوهري في الأمر هو الحيلولة دون تهجير الفلسطينيين خارج أراضيهم، إلى أين؟ ليس هذا مهماً، وليس الأولوية، فالفلسطينيون يجب أن يظلوا صامدين في أرضهم، وأن يتلقوا الدعم العربي المناسب في هذا الصراع. أما الأردن، فهو البلد المضياف، الذي يعلن أنه سيستقبل ألفي طفل من غزة لتلقي العلاج بين أهله وعلى أراضيه، وهو أمر مبرر ومنطقي. أما أن يستقبل الأردنيون الفلسطينيين الذين سلبت منهم أرضهم، ومن غير حق في العودة إلى ديارهم، فالملك، ومعه جميع الأردنيين، يرون أن ذلك مشاركة في جريمة تصفية القضية الفلسطينية لمصلحة إسرائيل، وهو ما يعني أن إسرائيل تسعى إلى الاستحواذ على قيادة المنطقة بصورة مجانية استناداً إلى مظلومية تتجاهل تاريخية الصراع وفصوله المختلفة.
أتت الزيارة لتفرمل نزوات ترامب بصورة مؤقتة، وحيث أن الملك كان أول من التقى بالرئيس الأمريكي، فالقمة العربية القادمة، مطالبة بأن تتخذ موقفاً واضحاً وصريحاً يكون المبدأ فيه هو رفض تهجير الفلسطينيين بصورة مطلقة ومبدئية، وبغض النظر عن الوجهة أو التفاصيل، وهذا ما يتماشى مع الموقف الأردني الواضح والصريح.
الأردنيون جميعاً يثقون بأن الملك يرى من موقعه مختلف المعطيات، ويعرفون أن المصلحة الوطنية هي التي تتقدم على أية اعتبارات أخرى.
فالأردن تعيش مواجهة وجودية، ولذلك، فالصراع ما زال في مراحله المبكرة، وزيارة واشنطن أعادت بعض المصطلحات إلى خانة البلورة والتهذيب، والسلام أولوية طالما كان ذلك يعطي الفلسطينيين حقوقهم الوطنية المتعارف والمتوافق عليها من الفلسطينيين قبل أي جهة أخرى، والكرة اليوم في ملعب المجموعة العربية التي عليها أن تتخذ في القاهرة موقفاً واضحاً.
يعرف الأردنيون الذين واجهوا صفقة القرن في نسختها الأولى مع الرئيس ترامب أن الأمريكيين ليسوا الطرف الحاكم المطلق والكلي الإرادة، ولكن مواجهته تتطلب استراتيجيات طويلة النفس، وهو الأمر الذي كان يشكل منهجية الملك في فرملة ترامب… خطوة لاختراق الأفكار المسبقة.
في الجولة الأولى قبل سنوات، والجولة الحالية، وليس ما يدعو للقلق طالما أن الجبهة الأردنية الداخلية متماسكة وتقف صفاً واحداً وراء الملك، وهو الموقف الذي تمكن خلاله الأردن من إسقاط نسخة الصفقة السابقة، وسيظل عاملاً وصامداً أمام أي نسخة أخرى.
نواصل الثقة في استراتيجية الأردن في هذه المواجهة، وما تحقق من منجزات في ظل الوضع الراهن يعتبر اختراقاً مهماً، وفرصة لفرملة ترامب عن مخططاته المنحازة للطرف الإسرائيلي، وهذا هو ما يجب الوقوف والرسملة حوله تجاه تحقيق النتائج بعيدة المدى.
تمكن الملك من تجاوز مأزق اللقاء الأول، ولكن الكثير أمام الأردن والمجموعة العربية من أجل التأسيس لتسوية عادلة في المنطقة. فلا أحد يختلف على ضرورة وجود هدوء في المنطقة يتيح البناء للمستقبل، وليس أمام الأردنيين سوى هذا الخيار، وعلى الأشقاء العرب أن يتقدموا بخطوات مساندة متقدمة من أجل بناء البدائل التي يراهن ترامب أن المجموعة العربية لن يمكن أن تتداركها، ولكن ذلك لا ينتمي إلى ثقافة قديمة، غادرها الأردن ومعه الكثير من الدول العربية، ويبدو أن لا أحد يعتنقها سوى الرئيس ترامب ومن يحاولون أن يقنعوه بتصوراتهم التي تتلاقى مع ذائقته وتوجهاته.
الأردن يواجه تحديات صعبة ولكنها ليست مستحيلة، والملك دخل بخطوات واثقة إلى البيت الأبيض كانت مقدماتها في كل بيت أردني، وفي كل بيت فلسطيني أيضاً. فما جمعه التاريخ ووثقته الجغرافيا، لا يمكن لترامب أو غيره أن يفصموا عراه أو يسرقوه لمصلحتهم وحساباتهم.
(الرأي)