مؤشر إيجابي ليس صدفة
سلامة الدرعاوي

وسط إقليم مضطرب سياسياً، ومع استمرار حالة عدم اليقين بشأن حرب الإبادة على الأشقاء في غزة، تسجل أعداد الشركات في الأردن نمواً بنسبة 12 % خلال أول شهرين من العام الحالي مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، فقد تم تسجيل 1,308 شركات جديدة منذ بداية العام، مقابل 1,165 شركة في الفترة ذاتها من العام الماضي، أي بزيادة 143 شركة.
فكيف نفسر هذا النمو؟ هل يعقل أن يتزايد النشاط الاقتصادي في ظل أجواء عدم اليقين الإقليمي؟ أم أن هناك مقومات حقيقية تدفع الاقتصاد الوطني نحو مزيد من الصلابة رغم كل التحديات؟ الجواب يكمن في مجموعة من العوامل الاقتصادية والمالية التي شكلت قاعدة متينة للنمو، وهي ليست وليدة اللحظة، بل جاءت نتيجة إصلاحات هيكلية تم تنفيذها خلال السنوات الماضية، فهذه الإصلاحات لم تكن مجرد استجابة ظرفية، بل استراتيجية طويلة المدى تهدف إلى تعزيز منعة الاقتصاد الأردني أمام الصدمات الخارجية، وهو ما نراه اليوم بوضوح في ارتفاع عدد الشركات الجديدة، التي تمثل مؤشراً حيويا على ثقة المستثمرين بالبيئة الاقتصادية.
لا يمكن الحديث عن هذا النمو دون الإشارة إلى الاستقرار النقدي الذي يتمتع به الأردن، فالسياسة النقدية المرنة التي يعتمدها البنك المركزي، ونظام سعر الصرف الثابت، وفوق ذلك استقلالية البنك المركزي التي تحميه من التدخلات السياسية، كلها عناصر أساسية تعزز الثقة بالنظام المالي، وبينما تعاني العديد من الاقتصادات الإقليمية من تقلبات حادة بسبب عدم الاستقرار السياسي، يثبت الاقتصاد الأردني قدرته على التماسك، بل والتوسع، في قطاعات متعددة، من الصناعة إلى تكنولوجيا المعلومات. تحسن بيئة الأعمال في المملكة يعد عاملاً رئيسياً في هذه الزيادة، فالإجراءات الحكومية الأخيرة جعلت تسجيل الشركات أسرع وأسهل من أي وقت مضى، حيث باتت المدة الزمنية اللازمة لتسجيل الشركات لا تتجاوز ساعة واحدة عند اكتمال جميع الأوراق، دون الحاجة إلى موافقات مسبقة من مؤسسات حكومية أخرى.
كما أن التعديلات التشريعية، خاصة تأجيل تسديد رأس المال إلى 60 يوماً بعد التسجيل، منحت المستثمرين مرونة أكبر في بدء أعمالهم، وهو ما يفسر نمو الشركات ذات المسؤولية المحدودة بنسبة 74.3 % من إجمالي الشركات المسجلة، بحجم رأسمال بلغ 20 مليون دينار من أصل 34 مليون دينار إجمالي رؤوس الأموال المسجلة خلال الفترة.
لكن، هل هذا النمو مجرد طفرة مؤقتة، أم أنه يعكس تحولاً استراتيجياً في هيكلة الاقتصاد؟ الأرقام تشير إلى أن هذا الارتفاع ليس معزولاً عن رؤية التحديث الاقتصادي (2023 – 2033)، التي تمثل خريطة طريق واضحة لإصلاح الاقتصاد الأردني على مدى السنوات المقبلة، فهذه الرؤية ليست مجرد وثيقة نظرية، بل هي خطة تنفيذية مترابطة، تنسجم مع التحديث الإداري والسياسي، وتخلق بيئة اقتصادية قادرة على الصمود في وجه الأزمات.
الأردن لا يعمل وفق منطق “ردة الفعل” الاقتصادية كما كان الحال سابقاً، بل بات يتبنى نهجاً استباقياً لمعالجة المشكلات الاقتصادية قبل وقوعها، ولعل ذلك هو السر في استمرار النشاط الاستثماري رغم التحديات السياسية المحيطة. في النهاية، الأرقام لا تكذب، ونمو عدد الشركات في ظل هذا المشهد الإقليمي المضطرب ليس مجرد صدفة، بل هو مؤشر على قوة الاقتصاد الأردني وثقة المستثمرين به، وبينما يعيش الإقليم حالة من الترقب والاضطراب، يثبت الأردن مرة أخرى أنه قادر على تجاوز العواصف الاقتصادية، ليس فقط بالصمود، بل بالنمو والتوسع أيضاً.