تحليل نفسي لذهنية الدولة الإسرائيلية ج2

د. خالد العاص

تناولنا عقلية الحصار والانقسام النفسي داخل دولة إسرائيل، وهما عاملان أساسيان في تشكيل رؤيتها السياسية والاجتماعية. في هذا الجزء، ننتقل إلى دراسة ظواهر أخرى لا تقل أهمية، تتمثل في التفكك الداخلي بين مكونات المجتمع الإسرائيلي، النزعة القهرية للسيطرة، واستخدام العنف كجزء من الهوية الوطنية.

أولًا: التفكك الداخلي: المجتمع الإسرائيلي ليس كتلة واحدة متجانسة، بل يتكون من مجموعات مختلفة ذات خلفيات دينية، علمانيون ضد حريديم، أشكناز ضد مزراحيم، صهاينة ضد ما بعد صهاينة، ديمقراطيون ضد استيطانيين. تباين كبير بين العلمانيين والمتدينين، اليهود الشرقيين والأشكناز، وكذلك بين الإسرائيليين الأصليين واللاجئين والمهاجرين.

هذه الاختلافات الاجتماعية والثقافية تولد توترات داخلية تؤدي إلى نوع من التفكك النفسي والجماهيري، حيث يشعر كل قطاع بأنه مهدد من الآخر، مما يُضعف الوحدة الوطنية ويزيد من حالة القلق وعدم الاستقرار، وهذا التفكك الداخلي يستغل أحيانًا في السياسة لتعزيز بعض الخطابات الانفصالية أو المتطرفة.

ثانيًا: إعادة توجيه التهديد: نظرًا لهذا التفكك، غالبًا ما تلجأ القيادة السياسية إلى إعادة توجيه الانتباه من المشاكل الداخلية إلى التهديد الخارجي، ويستخدم الفلسطينيون والجيران كأعداء خارجيين لتوحيد صفوف الإسرائيليين، وإخفاء الصراعات الداخلية، ولتبرير السياسات الأمنية المشددة. هذه الاستراتيجية النفسية تساعد على تقليل التوترات الداخلية مؤقتًا، لكنها تغذي دائرة العنف وتعمّق الانقسام مع الفلسطينيين، مما يحول النزاع إلى حلقة مفرغة يصعب كسرها.

ثالثًا: النزعة القهرية للسيطرة: تتميز السياسات الإسرائيلية بسيطرة أمنية صارمة وشاملة، تمارسها الأجهزة العسكرية والاستخباراتية على الأراضي المحتلة. يمكن فهم هذه السيطرة من منظور نفسي على أنها تعبير عن نزعة قهرية للسيطرة (compulsive control orientation) ، تنبع من خوف عميق من فقدان الأمن والهوية. هذه النزعة القهرية لا تقتصر على الدفاع عن النفس فحسب، بل تصبح أحيانًا وسيلة للتحكم والسيطرة على الواقع، تعبيرًا عن رغبة في فرض النظام والهيمنة، لكنها تحمل في طياتها خطر الاستفزاز والتصعيد.

رابعًا: العنف كهوية وطنية: العنف في إسرائيل ليس مجرد وسيلة للدفاع، بل أصبح جزءًا من الهوية الوطنية، فالتجنيد الإجباري، والحرب المستمرة، والتدريب العسكري المكثف، يخلق مجتمعًا يعتاد على وجود العنف كجزء من حياته اليومية، بل وكرمز للقوة والبقاء، حيث أن العسكرة في إسرائيل لم تبقَ في حدود الجيش، بل امتدت إلى الثقافة والسياسة،  وهو ما يُعرف اصطلاحًا بـ(Militarized Nationalism)  . هذا التكيّف مع العنف ينعكس على سياسات الدولة ومواقفها تجاه الصراع الفلسطيني، حيث تتحول الحرب إلى نمط حياة، والصراع إلى حالة دائمة تُبرر العنف وتعزز من مشاعر العداء والشك.

التحليل النفسي للتفكك الداخلي، النزعة القهرية للسيطرة، والعنف كهوية، يكشف عمق الأزمات النفسية والاجتماعية التي تواجه إسرائيل. هذه الأزمات لا تقتصر على علاقاتها مع الخارج، بل تمتد إلى الداخل، مما يزيد من تعقيد الصراع ويقلل من فرص التوصل إلى حلول سلمية.

لفهم السياسة الإسرائيلية بشكل كامل، لا بد من النظر إلى هذه الأبعاد النفسية التي تؤثر على صنع القرار والسلوك الجمعي، فالخوف من التفكك الداخلي والرغبة في السيطرة والعنف المتجذر، يشكلون خلفية لا يمكن تجاهلها لفهم واقع الصراع. إن القراءة النفسية لدولة مثل إسرائيل لا تُعفيها من المسؤولية السياسية أو الأخلاقية، لكنها تُساعدنا على فهم أعمق لمنطق سلوكها، وتُفسّر كيف يمكن لدولة أن تُمارس سياسات قمعية، بينما تعتقد في ذات الوقت أنها ضحية، وأن العالم لا ينصفها.

هذه الدولة، في نهاية المطاف، ليست مجرد كيان سياسي، بل ذات جمعية مأزومة، تتصارع بين صورة مثالية موروثة، وواقع دموي مفروض، وتعيش في ظل قلق وجودي لا ينتهي.

(الدستور)





زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق