تحليل نفسي لذهنية الدولة الإسرائيلية ج1

د. خالد العاص

تمثل دولة إسرائيل حالة فريدة في علم النفس السياسي، إذ تتقاطع فيها الذاكرة التاريخية المؤلمة مع واقع سياسي مليء بالتوترات والاضطرابات. إن التحليل النفسي لهذه الدولة والجماعة التي تشكلها يكشف عن أبعاد عميقة تلعب دورًا أساسيًا في تشكيل سياساتها وقراراتها. من أهم هذه الأبعاد عقلية الحصار والانقسام النفسي بين صورة الذات المثالية والذات الواقعية.

في هذا الجزء نستعرض كيف تجسدت هذه الأبعاد النفسية في الخطاب والسلوك السياسي الإسرائيلي، مع التركيز على تأثيرها في مواقف وسياسات الدولة.

أولًا: عقلية الحصار : يشير مصطلح «عقلية الحصار» إلى حالة نفسية جماعية تتميز بشعور مستمر بالتهديد والاحتجاز، مما يؤدي إلى حالة من التوتر واليقظة الأمنية المفرطة. في السياق الإسرائيلي، هذه العقلية متجذرة في تراكم تجارب تاريخية صعبة، بدءًا من الاضطهاد في الشتات، مرورًا بمأساة الهولوكوست، وصولاً إلى الحروب المتكررة التي هدفت إلى بقاء الدولة وتثبيت وجودها.

هذا الشعور الدائم بأن الجماعة محاطة بأعداء يبرر تبني سياسات أمنية صارمة، ويخلق انغلاقًا نفسيًا واجتماعيًا يصعب معه قبول النقد أو الاعتراف بالخطأ. تصبح نظرة الآخر مشوهة ومبالغًا فيها، وتُصنّف كل موقف أو شخص معارض كتهديد وجودي. على المستوى الجماعي، تؤدي عقلية الحصار إلى ترسيخ أنماط دفاعية تعزز من توحيد الداخل في مواجهة العدو، لكنها في الوقت نفسه تعيق فتح آفاق حوارية أو سلمية مع الآخرين، وتغذي أجواء عدم الثقة والريبة المستمرة.

ثانيًا: الانقسام بين الذات المثالية والذات الواقعية: تحرص إسرائيل على تقديم صورة ذات مثالية لنفسها، تظهرها كدولة ديمقراطية، عصرية، قائمة على مبادئ حقوق الإنسان والعدالة. إلا أن الواقع الذي يتعايش معه الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة يكشف تناقضات صارخة مع هذه الصورة، خاصة في ظل الاحتلال والتمييز والقيود التي تُفرض عليهم.

ينتج عن هذا التناقض حالة من الانشطار النفسي للذات (Splitting) داخل الجماعة الإسرائيلية، حيث تتصارع صورة الذات المثالية التي تريد الظهور بها مع الذات الواقعية التي تمارس سياسات قمعية وتنتهك الحقوق، هذا الانقسام يخلق حالة من التوتر والقلق، ويُحفز آليات دفاع نفسية مثل الإنكار، التبرير، والإسقاط.

الإنكار يتمثل في رفض الاعتراف بالآثار السلبية للاحتلال، بينما التبرير يستخدم لتبرير الإجراءات القمعية بحجج الأمن الوطني. أما الإسقاط فيُظهر الآخر كخصم عديم الأخلاق وتهديد وجودي، وهو ما يسهم في تبرير المواقف العدوانية على إيران. تتجسد هذه الآليات ليس فقط في الخطاب السياسي الرسمي، بل تمتد لتشمل وسائل الإعلام والتعليم والثقافة والسياسة، مما يغذي جواً من الانغلاق وعدم الاستعداد للنقد الذاتي أو الحوار البنّاء.

ثالثًا: آليات الدفاع النفسي وتأثيرها على المجتمع: إن هذه الديناميات النفسية تؤدي إلى تعزيز ثقافة الخوف والريبة داخل المجتمع الإسرائيلي، وتعمل على تضييق مساحة التفكير النقدي والتغيير. يصبح المجتمع محاصرًا بين حاجته إلى تأكيد هويته والواقع المتناقض الذي يعيشه، مما يولد حالة من التوتر النفسي المستمر. هذه الحالة تخلق بيئة يصعب فيها بناء السلام الحقيقي، لأن الخوف من التفكك والهزيمة، وكذلك الرغبة في الحفاظ على صورة الذات المثالية، تقود إلى اعتماد استراتيجيات أمنية وسياسية تقمع الاختلاف وتعزز الانقسام.

يمكننا القول إن عقلية الحصار والانقسام النفسي بين الذات المثالية والذات الواقعية يشكلان الركيزتين الأساسيتين اللتين تصنعان الإطار النفسي لسلوك إسرائيل السياسي والأمني. هذه التركيبة النفسية تُفسر الكثير من السياسات والإجراءات التي تبدو للبعض منطقية دفاعًا عن الذات، لكنها في جوهرها تعبير عن خوف عميق وتوتر داخلي.

في الجزء الثاني سنتناول أبعادًا أخرى من التحليل النفسي الإسرائيلي، تشمل التوترات الداخلية، النزعة القهرية للسيطرة، والعنف كجزء من الهوية الوطنية.

(الدستور)





زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق