شهداء المعاطف البيضاء
د. عاصم منصور

الأُفُق في غزّة ليس مجرَّدْ خطْ جغرافي يَفصِل الأرضَ عن السماءِ، بلْ هو جرحْ مفتوح في قلبِ البشريةِ ومرآة لعزيمةٍ لا تنكسرْ. في غزة؛ تغرب الشمس فوق بحرٍ اختلطت مياهه بدماءِ الشهداء ودموع أمهاتهم، وتضجُّ سماؤُها بأزيزِ الطَّائراتِ والصواريخ بدلًا من ألوان الشَّفق. منذ أكثر من 638 يومًا، يتعرض أهل غزة لحرب إبادة شاملة من قتلٍ ودمار وحصار وتجويع وتهجير، وانهيار شبه كامل للنظام الصحي واستهداف مُباشر للمستشفيات.
ورغم هذا الجحيم، برَزَتْ بُطولات الأطباءِ والمُمرضين والمُسعفين الذين اختاروا أن يكونوا حُرَّاسًا للحياةِ في زمنِ الموت. هؤلاء الأبطال؛ بمعاطفِهم البيضاء، وقفوا في وجهِ القصفِ والحصارِ، يُداوون الجِراح ويزرعون الأمل في عيونِ أرهقتها الحرب. عَمِلوا بِلا كَلل في مستشفياتٍ مُحاصرةٍ وغُرف عملياتٍ مُدمَّرة، أجرُوا العمليّات الجِراحية على ضوءِ الهواتفِ المحمولة وبأدواتٍ بِدائية، عالجوا المرضى بِمواردٍ شحيحة، وأنقذوا الأرْواحَ رغمَ فُقدانْ الزُّملاء والأهل، بلْ ورغم التَّهديد بالقتلِ والاعتقالِ.
تحوَّل المِعطف الأبيض في غزَة إلى دِرعٍ مقاومة ورمزْ لصمودٍ لا يُقهر، وأصبحت المُستشفياتُ خطوطَ مواجهة، وغُرَف العمليّات ساحاتُ صمودٍ استثنائية، وما يزال الأطباء يواجهون الموتَ بصدورٍ عاريةٍ وإيمان لا ينكسرْ، بينما يُمعِن الاحتلالُ في استهدافهم، فقدْ بلغ عدد شُهداء الكوادر الطِّبية نحو 1600 شهيد، بِحسب إحصائيات أُمَمِيّة، إضافة إلى اغتيال أطباء كِبار أثناءَ عملِهم أو في السُّجون تحتَ التعذيبِ، مثلْ الدكتور عدنان البرش والدكتور إياد الرنتيسي. كما بلغ عدد المُعتقلين من الطَّواقم الطبّية 297 وِفقًا لِمُنظَّمة الصِّحة العالمية، بينما تُشير تقارير أُخرى إلى 334 مُعتقلًا، بينهم أكثرْ من 20 طبيبًا، أبرزهم الطّبيب حُسام أبو صفيَّة الذي بَقي يَعمَل رغمَ إصابَتِه وفُقدان ابنه، قبل أن يُسلِّم نفسه للاحتلال في مشهدٍ مُؤثرٍ ما يزال عالِقًا في ذاكرةِ العالمِ.
هؤلاء الأبطال لمْ يكونوا مجرَّدْ أرقام، بلْ سطَّروا ملاحِم في التَّضحيةِ والبطولةِ في ظِلِّ حربْ إبادةٍ غيرُ مَسبوقة، وكان آخِرهم الدكتور مروان السّلطان، مدير المستشفى الإندونيسي وأحد طبيبي القلب الوحيدين في شَمالِ القِطاع، الذي صَمدَ تحتَ الحصارِ ورفضَ مُغادرة المُستشفى حتى استشهدَ مع خمسةٍ من أفرادِ عائلته بقصفٍ صاروخي، تارِكًا خلفَه فَراغًا كبيرًا وآلاف المرضى.
لم تتوقفْ مُعاناة القِطاع الصِّحي عندَ الشَّهادةِ فقط، بلْ امتدت إلى الأُسَر والسُّجون، حيث ارتقى أربعةُ أطباء تحتَ التعذيبِ، وخرجَ مِائتا أسيرٌ محرَّرْ من أبناءِ القِطاعِ الصِّحي بعد أنْ ذاقوا مَرارةَ الاعتقال. هؤلاء الأطباء ظلّوا يحمِلون همَّ المرضى ووجع الوطنْ حتّى خَلفَ القضبانِ، يُضَمِّدون جِراحَ رفاقِهم ويزرعونَ الأمل في عَتمةِ الزَّنازينْ.
ولمْ تقتصرْ الخسائِرُ على الأرواحِ، بلْ تمَّ تدمير 94 % من مُستشفيات القِطاع، وتوقَّفتْ مُعظَم سيَّاراتُ الإسعافِ عن العملِ، ومع ذلك واصَلَ الأطبَّاء أداءَ رِسالتِهم في ظروفٍ شِبْهُ مُستحيلة؛ يُواسونَ الأمَّهات الثَّكالى ويبتسمونَ في وُجوهِ الأطفالِ المُصابين؛ مُدركين أنَّ الموتَ قد يأتي في أيِّ لحظة.
الكثيرُ من أطباءِ غزَّة تلقُّوا تدريبَهم في المستشفياتِ الأُردنية، وتميَّزوا بالجَدِّ والمثابرةِ وفضَّلوا العَودةَ إلى وطنِهم المُحاصَر لِيكونوا في الصُّفوفِ الأولى، يمنحون الحياةَ لأبناءِ شعبِهم رغمَ كلِّ المَخاطِر.
استشهادْ الأطباءْ وأُسَرِهِم في غزّة ليس مجرّدْ خبرْ عابِر؛ بلْ هو وصْمةُ عارْ في ضميرِ العالمِ؛ فما يحدُثُ هُناك من استهدافٍ مُمَنهج للعامِلينِ في الرعايةِ الصِّحيةِ هو جريمةُ حرْب وانتهاكٌ صارخٌ للمواثيق الدُّوليةِ التي داستها آلاتُ القتلِ والدَّمارِ.
سلامٌ على شهداءِ الْمعاطِفِ البيْضاءِ، الذين علَّمونا أنَّ الإنسانيةَ لا تَموت، وأنَّ غزّة ستظلُّ تنبُضُ بالحياةِ رغم كلِّ شيء.
(الغد)