النبوءة ذاتية التحقيق

معاذ دهيسات

تشير معضلة (الانعكاسية) في البناء النفسي التي أطرها جاكوب برونوفسكي الى أن العقل البشري قد تطور ليفهم العالم من حوله لا ليفهم نفسه، هي ذات المعضلة التي تلتهمنا اليوم حيث نهمنا في إدراك ابعاد امتدادات الشبكة والذكاء الصناعي دون ان نحيط بماهية هذه الخوارزمية والشبكة وآلية بنائها، ضمن متاهة دائرية بات من المستحيل فيها تحديد السبب والمسبب، مثلما تقدم لنا نبوءة ونتوه في تفاصيل حدوثها بين سلوكنا الذي دفع باتجاه تحقيقها ام حدوثها فعلاً بشكل مستقل.

من خلال قصته (اليوم الذي انهار فيه السد)، سخر الكاتب الأميركي جيمس جروفر من تجربة عاشها في صغره وقدمها في اطار جميل وتبدأ الحكاية عندما بدأ أحدهم بالركض فجأة باتجاه معاكس لسد أوهايو لسبب ما تبعه بعد ذلك شخص آخر شعر بالقلق وبعدهم كان بائع الصحف يركض باتجاه مواز لهم وخلال عشر دقائق كانت كل روح في المدينة تركض باتجاه الشرق بعد أن خرجت صرخة تقول اهربوا الى الشرق فقدرت القطعان البشرية المائجة أنهم يبتعدون عن السد الذي سينهار وبعد ساعتين من الهلع ظهر رجل من الجيش يصيح عبر مكبرات الصوت أن أوقفوا الجنون وأن السد لم يتصدع، يقدم الكاتب القصة بسردية فكاهية ولكنها قصة حقيقية رصدت في مدينة كولومبو العام 1913 وهي من القصص التي يدخل فيها البشر في دوامة لا يعرف فيها السبب والمسبب وأين ابتدأت ولكنها ببساطة ابتدأت!

في جدلية (بجماليون) ما قبل التاريخ صنع النحات تمثالاً لامرأة من العاج فعشقها وظل يتمنى ان تبعث فيها الحياة حتى تحققت نبوءته، ومن هذه الجدلية نشأ ما يعرف بـ(النبوءة ذاتية التحقيق) حيث التوقع الذي يجعل نفسه حقيقة، نبوءة يلفظها العلم ولكنها تفرض نفسها في الروحانيات ضمن قوانين الجذب والكارما والتفاؤل بالخير لتجدوه.

في الخداع النفسي مثلاً كثيراً ما نسقط في ما سماه العالم النفسي الكبير (ثورندايك) بـ(أثر الهالة) وهو ميولنا لفرض ما نراه من احكام على الآخرين فنعمل بكل طاقتنا لإضفاء الصفات التي نراها عليه تبعاً لتقييمنا المحدود، يقع المدرسون بهذا الخطأ بشكل تكراري عند اخبارهم أن طالباً ما هو الاكثر لمعاناً وفهماً بين اقرانه ليصبح بالحقيقة سلوك المعلم في تقييمه للطالب مبنيا على هذه الهالة التي رسمت في ذهنه، في حياتنا نجد أن هذه الهالات التي رسمت تقتل كل فرصة لتطوير عقل ناقد بذاته قادر على بناء نموذجه الخاص في التقييم بعيداً عن أهواء وآراء الآخرين التي بنوها تبعا لمعطياتهم المعرفية وتجاربهم، يبدو أننا نركن لنظام فكري معلب وجاهز يمنحنا قوالب جامدة لكل شيء نتعامل معه بدلا من بذل الجهد لبناء نظامنا التحليلي الخاص والمستقل.

وبالحديث عن النبوءات يقوم علم المستقبليات الحقيقي على وضع سيناريوهات للأحداث ضمن إطار علمي محكم بحيث يمكننا مشاهدة القادم وتلافي اخطاره، لذا تجد تصورات حول احتمالات مختلفة لحرب عالمية أو مجاعات او أوبئة كما ستجد تصورات لسيناريوهات حول الذكاء الصناعي ومستقبليات الطاقة والمعرفة وغيرها، برنامج واضح يمكنك من وضع تصور لكل خطوة ونتائجها ضمن رؤية استراتيجية تحتمل نسبة خطأ هامشية.

وبناء على هذه الدراسات المحكمة نجد ان شخصاً مثل بيل جيتس هو أكثر شخص يملك اراضي زراعية في العالم وليس مجرد صانع برمجيات، ونجد أن الصين تستعيد طريق الحرير تبعا لأبحاثها وتعيد اميركا واوروبا تموضعها وفقا لمعطيات علمية.

هكذا تحقق النبوءة ذاتها وبغير ذلك فلسنا إلا عابثون نجاور (فلاديمير) و(استراغون) في انتظار غودو!

عن الغد






زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق