مريد البرغوثي.. رشاقة الوداع

هلا أخبار – يرحل الشاعر مريد البرغوثي وكأنه يردد قصيدته الاثيرة «لا بأس»، حين يقول «لا بأس أن نموت والمخدة البيضاء، لا الرصيف،

تحت خدنا وكفنا في كف من نحب، يحيطنا يأس الطبيب والممرضات، وما لنا سوى رشاقة الوداع غير عابئين بالايام تاركين هذا الكون في أحواله، لعل غيرنا، يغيرونها».

يغادر صاحب «طال الشتات» إلى رحلته الاخيرة، وهو الذي اعياه الشتات والتنقل والفقد، و»أحلامه ركبت، أمس، قطار الليل ولم يعرف كيف يودعها»، ولم «يستيقظ كي يرى الحلم» بينما «الطائر الازرق الريش» يفرش أعماله في فضاءات الابداع كـ»زهر الرمان» الذي يتلألأ حين أطلت «رأيت رام الله»، وليظل مريد البرغوثي ذاك «الشاعر الذي يكتب في المقهى» رغما عن من «مشى نحوه ببطء» ويرتقي ليلتحق بـ»رضواه».

في جلبة المفاجأة وهول الغياب، يستذكر أدباء من أصدقائه سيرته وأعماله الابداعية، إذ يقول الاديب الدكتور إبراهيم السعافين لوكالة الانباء الاردنية(بترا) إن «مريد البرغوثي شاعر متفرّد، عرفت مريد البرغوثي عن قرب في مطلع التسعينيات، وتوطنت صلتنا في مجلس الرائع إحسان عباس، وكتبت عن تجربته الشعرية المتميزة في جريدة الدستور حين كان يحرر الصفحة الثقافية آنذاك المثقف الجميل خيري منصور، قدم لي نسخًا من دواوينه التي شكلت تجربته الشعرية العميقة من البعدين الوطني والإنساني».

وبحسبه إن لمريد البرغوثي صوتا متميّزا وشخصية شعريّة لافتة، رائيا أن في شعره ملامح ملحميّة لا تقف عند البعد الغنائي السائد لدى شعراء المقاومة في الأغلب، ولعلّه مثل عدد من الشعراء الفلسطينيين كان يحس بشيء من الغبن تجاه تقدير مكانته الشعرية قياسًا بالشاعر محمود درويش الذي غطت شهرته على كثير من الشعراء.

وقال «لقد كان مريد ذا مقدرة هائلة في رصد الملامح الدقيقة ومعاينة التفاصيل الواقعية التي تمتزج فيها الصورة أو المشهد بالحركة على نحو ما نرى في قصيدته «غمزة» التي أبهرتني في قدرتها على التقاط التفاصيل، وقد كنت أُلحُ عليه في قراءتها في الندوات والمهرجانات»، لافتا إلى أن لمريد دورا مهما في التجريب بقصيدة الومضة والرباعيات واستغلال عنصري التضاد والمفارقة كما نلاحظ في ديوانه»رنة الإبرة.

وينوه بأن سيرته الروائية» رأيت رام الله» التي نالت جائزة نجيب محفوظ من الجامعة الأمريكيّة في القاهرة، حققت له توازنًا وشهرة مضافة، معتبرا أنها عمل فني وإنساني ونضالي جميل.

الاديب السعافين الذي يعتبر مريد البرغوثي بمثابة قصّة انتصار الحب والإنسانيّة، وقصّة النضال الطويل، وقصة الظلم والحرمان، يرى انه دفع ثمن موقفه من اتفاقية كامب ديفيد، حين حرم من العيش في ظل أسرته: زوجته رضوى عاشور وابنه تميم لزمن طويل.

ويختم بأن الراحل مريد البرغوثي صادق في حياته وصداقاته وإنسانيته، وصادق في شعره، وقاسى مرارة الفقد قبل أن يترجل عن صهوة النضال.

استاذ الادب في الجامعة الهاشمية الشاعر والناقد الدكتور مصلح النجار يقول «يرحل مريد البرغوثي وقد أتعبته المنافي، التي استثمرها أحسن استثمار، كشأن المبدعين الحقيقيين، حين يُخرجون الحياة من ظلامات قسوة التجربة، ويصدّرونها فنّا ذا قيمة».

ويؤكد الناقد النجار أن مريدا شاعر من حركة «شعر المقاومة الفلسطينية»، على الرغم من موقفه من المصطلح، معتبرا انه من خلال المقاومة مارس حضوره الشعريّ على طريقته، في حين كانت حركة المقاومة قادرة على رفع شعراء آخرين بآلتها الإعلاميّة المتمكّنة.

ويرى ان الشاعر الراحل البرغوثي مارس هذا الحضور الخاصّ في المشهد الشعريّ الفلسطيني، بما يناسب وجود الشعراء النجوم الذين عاصرهم ورافقهم، فهو شعريًّا ابن جيل محمود درويش، وسميح القاسم، وتوفيق زيّاد، الذين تألّقوا وكانوا الأبناء الشرعيين لجيل من الرواد في حركة الشعر الفلسطينيّ من أمثال عبد الرحيم محمود، وإبراهيم طوقان، فمعين بسيسو، وفدوى طوقان، وهارون هاشم رشيد، وأبي سلمى.

ولعلّ ما حدث مع مريد، على الرغم من «انتباهه الإبداعيّ» كما كان يسمّيه، بحسب الناقد النجار، شبيه بما حدث مع محمد القيسي وخالد أبي خالد وغيرهما، في جدل المواقف والعلاقة مع حركة المقاومة الفلسطينية، ولكنه زاد على ذلك موقفَه الحادّ من النقاد العرب.

ويؤكد أن الحروف التي تركها كفيلة بإنصاف الشعراء، حين تختفي المؤثرات الأخرى بفعل الزمن، وتصحو الأوطان على الشعراء، ويشرع الشعر نوافذه للحقيقة.

أما الشاعر يوسف عبدالعزيز الذي يعتبر أن الراحل البرغوثي واحداً من شعراء (المقاومة الفلسطينية) الذين أغنوا المشهد الشعري العربي، بإبداعهم من جهة، وبمواقفهم القومية الملتزمة بفلسطين وبالعروبة من جهة أخرى، فيسجل له أنّه عمل على تطوير قصيدة المقاومة، وهي تلك القصيدة التي انبثقت بعد حرب عام 1967، وكان من أقطابها الشعراء محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زيّاد، موضحا أن مريد عمل على إخراجها من حيّز الشّعار السّياسي باتّجاه الفضاء الجمالي والإنساني.

ويلفت انه بحكم اطلاع الشاعر الراحل على الشعر العالمي من خلال لغته الإنجليزية التي يتقنها، فقد أدخل الكثير من الإضافات إلى القصيدة التي يكتبها.

وفي هذا السياق يقول «ولا أزال أذكر ديوانه المهم (قصائد الرصيف) الذي ظهر في بداية ثمانينيّات القرن الماضي، حيث لجأ إلى كتابة القصيدة القصيرة المكثّفة، التي تستند إلى جماليات الحداثة الشعرية، في الوقت نفسه الذي كانت الغالبية العظمى من الشعراء الفلسطينيين والعرب، مشغولة بالمطوّلات الشعرية التي كان الشعراء يقولون فيها كلّ شيء».

وفي استذكاره لمناقب الشاعر الراحل لاسيما مواقفه الوطنية والقومية من القضية الفلسطينية، يرى انه بسببها ضاقت عليه المنافي، وتمّ إبعاده عن هذه الدولة أو تلك، مما دفعه إلى الإقامة بعيداً عن زوجته الروائية المصرية رضوى عاشور، وعن ابنه الشاعر تميم البرغوثي، مستعيرا عبارته بأنه «نجح في الحصول على شهادته الجامعية، وفشل في الحصول على حائط يعلّق عليه هذه الشهادة».

مريد البرغوثي اديب نضالي جاد، بحسب الشاعر والناقد الدكتور راشد عيسى، سواء اكان شاعرا أم روائيا، معتبرا إياه مثقفا كبيرا وهب ثقافته لمداواة الجرح الفلسطيني.

ويرى في شعر الراحل البرغوثي «نزوعا تنويريا نحو تعزيز الصمود والثبات على عزيمة الانتصار على الواقع المرير المعيق للحلم الكبير، فحين يعزف على ثيمة الشتات فإنما ينادي بالايلاف والايناس».

وفي هذا الاطار يقول «في شعره روحانية وطنية عالية صادقة ذلك لان شعره نابع من ألم حقيقي عبر متوالية المنافي والاقصاءات والتحديات، والقاؤه ساخن يفور حرافة وانفعالا فنيا مؤثرا في المتلقي».

الشاعر عيسى الذي يعتبر أن رواية الراحل البرغوثي عن رام الله هي شهادة الابن على أمه عبر أنين الكلمات وصراخ الحنين، يرى انها هي واقعية وروحانية يصبح فيها المكان شاهدا على الشتات ويصبح في الوقت نفسه شتاتا داخليا، موضحا أن رام الله ليست سوى رمز مكاني شامل لكل فلسطين عبر آهات الشخوص الممتزجة بآهات الوجع الوطني، فهي رواية داخلية الرؤيا وخارجية المغزى في وقت واحد، زفر فيها مريد انفاسه المحترقة بأسلوب تنثال منه رائحة دموع مكنونة في المهجة والوجدان.

ويختتم بقوله «أن اثار تحليقه الابداعي ستبقى ماثلة في احاسيسنا الجريحة».





زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق